الكمّامة بوصفها قناعاً: أمان يغطّي وجهه بالرّعب

الكمّامة بوصفها قناعاً: أمان يغطّي وجهه بالرّعب

01 ابريل 2020
السخرية من الكمامة للتهكّم من هشاشة النظام الصحي (Getty)
+ الخط -
ترى تعريفات السياسة التقليديّة أن القرار السياسي جوهره هو خلق الاختلاف بين "الصديق" و"العدو". هذا التصنيف ليس فقط بيروقراطياً أو قانونياً، بل تمثيلي جماليّ؛ أي أن صور الأعداء يجب أن تكون مرعبة، بشعة، تثير الشبهة والقرف أحياناً، بعكس صور "الأصدقاء" النظيفين، الجميلين، أصحاب الأيادي البيضاء. هذه العلامات إما تكون من إنتاج السلطة الرسميّة، كأشكال المجرمين التي تظهر في صور الاعتقال، أو من إنتاج الأفراد الذين يريدون الاختلاف عن الجماعة لأسباب سياسيّة يتحرك فيها تصنيفهم بين أعداء أو أصدقاء، أصحاء أو مرضى، كحالة المصابين بالإيدز، واختلاف أشكال تمثيلهم الرسمية وغير الرسميّة عبر القرن العشرين.
في ظل ما يحدث الآن من جائحة، هناك ارتباك في حالات التمثيل الرسمي وغير الرسمي، التي ترتبط بالكمامة، بوصفها ليست فقط ذات فوائد صحية، بل أيضاً تمثيل لاختلافات ثقافيّة؛ هي أشبه بالأقنعة، لكن لا نعلم تفصل من عن من؛ المصابين عن الأصحاء؟ من يضع الكمامة يخاف من انتقال العدوى إليه؟ أو يخاف أن تنتقل العدوى منه إلى غيره؟ هذا الالتباس سببه غياب أعراض واضحة في بداية حضانة الفيروس، ما يجعل الجميع مهدّداً، وفي الوقت ذاته غير مهدد، وكأن "الكلّ" عدو محتمل لأي فرد في اللحظة ذاتها.

الكمامة أشبه بالقناع، تخفي الوجه لكنها تفضح التمثيل الثقافي والسياسي، علامة على الاختلاف والانتماء إلى كتلة بشريّة تدّعي الصحة في الفضاء العام الخطر، العدواني سرّاً. صحيح أنّ هناك تضامناً اجتماعياً ومسافات للحذر والأمان، لكن الكمامة علامة مرئية على الاختلاف، حتى لو لم تكن طبيّة، بل مجرد قطعة قماش أو ورقة لا فائدة منها، لكنها علامة على النرجسية الساخرة، تمثيل الذات المختلفة والتسليم بالخطر الخفي، حتى لو عنى ذلك استخدام ما هو غير طبي، بل مجرد شكل من أشكال اللعب.
تغطي الكمامة فتحات الداخل التقليديّة، الفم والأنف، الفتحات التي تربط داخل الجسد المنيع مع الخارج الخطر، هي لا تعزل الفرد كلياً، بل ترسم حدود جسد الفرد ورغبته بالانغلاق الكليّ، ولا نعلم بدقة جدواها، لكنها علامة الأمان الداخلي وبث الرعب للخارج، إعلان عن تماسك الداخل الصحي والنظيف ضد هشاشة و"وساخة" الخارج الذي يتشابه فيه الأفراد مع الأغراض، الكل عرضة لأن يكون عدواً، لا يجوز مسّه.
تنتشر صور ساخرة يومياً عن كمامات وأقنعة منزليّة أو أخرى للزينة، تسخر من الكمامة الطبيّة. كأن هذه السخرية أسلوب للتهكم بهشاشة النظام الصحيّ الذي يدّعي أنه يضمن حياتنا، والذي انكشف عجزه مع هذا الوباء، خصوصاً أن هناك رعباً طبياً وتاريخياً مرتبطاً بالكمامات والأوبئة والأقنعة التي تستخدم لصيادي الطاعون مثلا، كذلك الصورة النمطية عن الكمامة مرتبطة بخراب العالم، سواء في أفلام الخيال العلميّ، أو في الحقيقة، كما الصور التي كانت تظهر من الصين، التي نشاهد فيها السكان يرتدون كمامات بسبب التلوث العالي للهواء. وكأن الكمامة علامة على خراب العالم كما نعرفه، خصوصاً أنها تستهدف الفتحات التي تشكل علاقتنا مع الخارج، وحاستي الشم والتذوق، تلك المرتبطة باللذّة، والالتهام، والقرف، والعمليات التي نختبر فيها العالم حسياً.
في الدول التي ما زال فيها الفيروس محط إنكار، أو سياسات البروباغندا، تظهر الكمامة لا فقط كعلامة على الاختلاف بل على التفوق عن أولئك "المتسيبين" و" قليلي الفهم"، كما نشاهد في تقرير طويل لشادي حلوة، الذي يتعالى فيه على السوريين في الشارع ويؤنبهم على تهديدهم لحياتهم وحياة الآخرين عبر نزولهم للشارع وعدم البقاء في المنزل، في حين هو يضع كمامة وقفازين طبيين حين يتحدث معهم. الكمامة هنا علامة ساخرة على الاستثناء الذي مورس فيه أشدّ العنف على السوريين وهدد حياتهم يومياً قبل الجائحة. ومع الجائحة وغياب البنى التحتية، تظهر الكمامة كسخرية وأسلوب للتنمر على أولئك الأقل حظاً.

دلالات

المساهمون