عمرو دياب: "سهران" كي لا يرى الكابوس

عمرو دياب: "سهران" كي لا يرى الكابوس

28 فبراير 2020
يعاند قطار الزمن متشبثاً بموقعه كمغنٍّ للشباب (فيسبوك)
+ الخط -

في حديث سابق مع الإعلامي ممدوح موسى، أشار عمرو دياب إلى كابوس يقلقه دائماً، يتمثّل في أن يأتي يوم يغني من دون أن يلقى جمهوراً أمامه. وهذا ربما ما يدفعه إلى إصدار ألبوم كل عام، وكأن ابتعاده عن جمهوره من دون جديد سيجعله عُرضة للنسيان، بصرف النظر عن اختياراته.

نهاية العام الفائت، أصدر سبع أغانٍ لألبوم سرعان ما تراجع عنه، واستدرك اختياراته بنفس السرعة ليعود بألبوم "سهران" الذي أصدره أخيراً. لعل أهم ما في "سهران" هو عدم حضور تركي آل الشيخ كواحد من مؤلفي أغانيه. على الأقل، أثمر هذا الاستدراك السريع عن تحسين اختياراته مقارنةً بآخر ألبومين، لكنه غير كافٍ لبث الحياة في سوق غنائية تحتضر.

عبر مسيرة تمتد لما يقارب الأربعة عقود، فرض عمرو دياب نفسه منذ أواخر الثمانينيات كنجم أول للأغنية العربية، وتعدى ذلك لشهرة عالمية لم يسبق لمغنٍّ عربي آخر تحقيقها. فمن ناحية، أدار نجوميته بذكاء، وبموهبة تتلاءم مع متطلبات أغنية البوب، لكن الأمر مرتبط بدرجة كبيرة في مثابرته المستمرة، وإن لم يخرج كثير من اختياراته عن تقليد مُتبع تسوده النمطية.

الجلي هو بروز تناقض في شخصيته الغنائية، فهو أكثر تقدمية في كثير من اختياراته الموسيقية، وغالباً رجعي في اختياراته الشعرية، وهذا لم يتغير كثيراً في آخر ألبوماته أيضاً.
ربما تكون أغنية "عم الطبيب" الاستثناء الوحيد في مضمونها الشعري المختلف، وليس في جودتها. اللافت هو الأسلوب اللحني الذي لم يسبق لعمرو دياب، غالباً، تقديمه في ألبوماته السابقة، وهي اللحن الوحيد لدياب نفسه في الألبوم، وتستعير الأغنية أجواء شرقية قديمة تعيدنا إلى مناخات أغاني سيد درويش، مثل "الحلوة دي"، وتلك الأزمنة الفاتنة. غير أن اللحن من مقام الحجاز، ذات خاصية تتسم بها من دون شبهة الاقتباس. اللافت استخدام كورال على طريقة سيد درويش، مع أسلوب موسيقي يجاري التخت الشرقي البسيط، من دون الوقوع في إغراء البذخ العصري.

يختلف الأمر في أغنية "حلوة البدايات"، من ألحان عمرو مصطفى، فغنائيتها الشرقية تعود إلى أشكال استخدمتها أغاني البوب، إضافة إلى استخدام تقنية التكنو موسيقياً. ربما، أراد عمرو دياب أيضاً استعادة زخم مرحلته الذهبية، وتحديداً في "حبيبي ولا على باله"، وجرى المزج بين الروح الشرقية والغربية المعاصرة على موسيقى التكنو واللحن الشرقي، في أدوار إيقاعية شرقية وغربية متبادلة، وأخذت موسيقى التكنو طابعاً احتفالياً باستمرارها أكثر من دقيقة، مع توقّفين يفسحان لاستعراضين إيقاعيين؛ الأول يشغله إيقاع المقسوم الشرقي متفرداً، بينما الفاصل الختامي على إيقاعات غربية تخمد تدريجياً، مع الإبقاء على طنين التكنو بأصوات توحي بوجود جمهور في حفلة.

يدخل الغناء الشرقي بجملة لحنية راقصة وخفيفة على مقام الكرد، مع تبدلات إيقاعية، بدءاً بالتكنو، ثم إيقاع لاتيني من أنواع الرومبا، ويعاود بإيقاع المقسوم، وهكذا. شهدت الأغنية ديكورات صوتية مجسمة إيقاعياً وموسيقياً، عدا أن استخدام التكنو أصبح كليشيهاً في أغاني البوب. وأضحى إلى جانب المقسوم والغيتار الإسباني ثالوثاً أساسياً في ألبومات صاحب "قمرين" خلال آخر عقدين.

حاول دياب، لإدخال أشكال جديدة، العودة إلى أزمنة التطريب، لكن هذه المرة بالعودة إلى سمات برزت نهاية الستينيات وسادت في السبعينيات، وتحديداً بروح أغاني بليغ حمدي لمغنيات تلك المرحلة، وعلى نحو يبرز أكثر في القفلة الغنائية. ففي أغنية "روح" على مقام البيات وبلحن أحمد زغلول، يتم توظيف الوتريات بجملة موسيقية شرقية، وتطريزات طربية تملأ الفراغات، والمصاحبة لإيقاع الوحدة كحالة تعبيرية عن الحزن. فاللحن يتمسك بكل التقاليد من دون إضافة.

هل أراد عمرو دياب القول إنه امتداد لهذا التاريخ التطريبي بدءاً من سيد درويش وحتى بليغ حمدي؟ ومع أن الأول مثّل مرحلة انبعاث، كان الأخير تعبيراً عن الانحسار، بصرف النظر عن نجاحه الكاسح. وتلك الجزئية انعكست لتبدو مشرقة في "عم الطبيب" وداكنة في "روح"، بما فيها من افتعال تطريبي. 

وبصورة عامة، تلتصق صناعة الأغنية بمتطلبات السوق، ولكنها أيضاً تجسيد لانحسار حقبة مثّلها عمرو دياب وما زال يتصدرها؛ إذ يعاند قطار الزمن متشبثاً بموقعه كمغنٍ للشباب، أو يحاول أن يتماشى مع مواضيعهم وإن بصورة شديدة السطحية. فكابوس هروب الجمهور منه يجعله رومانسياً وأقل جرأة، فلا يتحدث بمضامين تنعكس عليها خبرات جديدة، تفتح للأغنية مجالات أوسع، وبدلاً من ذلك فإنها تنحصر بتعابير الحب المستهلكة.

في أغنية من فئة المقسوم، سنجده يتحدث عن وجوده "سهران مع ناس حلوة"، بذلك التعبير المبتذل واليومي، وتدخل فتاة تبهرهم بجمالها. الأغنية التي لحنها عزيز شافعي، تكاد تكون نسخة أعيد ترميمها لأغنية "قدام مرايتها"، وهي من ألحان شافعي أيضاً، وسبق أن أصدرها ضمن الأغاني السنغل السابقة، ولنجاحها ضمنها ألبومه، واختار أغنية قريبة منها، باعتبار أنها مطلوبة لدى الجمهور. جاءت "سهران" بصيغة لحن شعبي مبسط على مقام الكرد، كما أن جملتها الموسيقية الراقصة على الأكورديون الشرقي وإيقاع المقسوم تعيدنا إلى التسعينيات.

لن تتغير المضامين الشعرية، وهي استخدام نفس الكليشيهات في كلمات الغزل المُكرّرة، كما لو كانت عملية إعادة تدوير، ومن ثم يأتي دور اللحن، لكن صاحب "عوّدوني" يغني ما يفهمه أو يشعر به، وهو ما أشار إليه أحد الشعراء الذين تعامل معهم في ألبومات سابقة، بأنه طلب منه في أول تعامل تغيير بعض محتوى الأغنية لأنه "يحب الكلام البسيط". لكن يبدو أن الخيط الرفيع بين ما هو بسيط وما هو سطحي قد تلاشى.

توظيف الفلامنكو والغيتار الإسباني جزء من أشكال غناها عمرو دياب وساهمت في صعوده، وهو ما يستعيده لحن عمرو مصطفى على مقام الكرد في أغنية "جامدة بس"، وتتسم بأسلوبه الحيوي الذي فقد مع الوقت موضته. المختلف هذه المرة استخدام مدخل لأصوات الفيولين بطراز ناعم، ويتبين خط الأورغانوم من طبقة منخفضة، بنظام توافقي بسيط، تعود متوهجة وأكثر إيقاعية آخر الأغنية.

يتمتع عمرو دياب بأناقة في تصميم مظهره، بمعنى أنه يحرص على إيجاد نسق واضح لمسيرته وشكله الموسيقي. وفي أغنية "يا روقانك" هناك محاولة لتواصل حوض المتوسط بالبحر الكاريبي، فالأغنية على إيقاع الرومبا، لكنها في لحن المذهب تأتي بطابع مصري، وربما مكرّر سبق أن سمعنا ثيمته في إحدى أغانيه، ثم تنتقل عبر تصعيد إيقاعي إلى الأغصان باندفاع ديناميكي على طريقة الرومبا، يتخذ البناء شكلاً لإنتاج أغنية رومبا، وتمطر النحاسيات فاصلاً قصيراً مشرقاً وراقصاً، ليعود إلى لحن المذهب. تحتشد الأغنية بالاستعارات الموسيقية الراقصة القادمة من البحر الكاريبي، الأكورديون الممتزج بالنحاسيات، ثم في النهاية مع صخب النحاسيات بمصاحبة مختلفة، وكأنها أشكال كرنفالية.

يمكن تقسيم ألبوم عمرو دياب إلى أجزاء معينة، هناك أغنية مقسوم تنتمي إلى التسعينيات، وأخرى بغيتار إسباني وإيقاعات لاتينية، وأيضاً أغنية تكنو، إلى جانب وجود شكل شرقي وشعبي، وهناك أيضاً محتوى رومانتيكي. تنتمي "زي مانتِ" إلى النمط العاطفي الرومانتيكي، مع توظيف للغيتار وإيقاع الروك، مع مبالغة في أسلوب الإلقاء العاطفي لغناء عمرو دياب. لكن الأشكال الرومانتيكية الأخرى وظفت إيقاعاً شائعاً في أغاني البوب الغربية r&b.
غير أن عمرو دياب يستعير أحياناً من نفسه، كما في أغنية "هيعيش تفتكرني"؛ إذ يذكرنا مدخل البيانو بأغنية "وماله"، بينما في اللحن تظهر ثيمات من أغنية "يهمك في إيه". أحياناً يكون هناك توفيق في استعادة ثيمة أو روحها بلحن مغاير، لكن في هذا اللحن هناك شكل من التلفيق، وحضور عمرو مصطفى يأتي كحلويات مضرة لكنها ما زالت محببة لبعض الجمهور.
وعلى صعيد آخر، يحمل لنا الألبوم صورة عمرو الراغب في مواكبة ذائقة الجمهور، حتى يبقي نفسه على القمة. فمن ناحية، يحاول مواجهة الذائقة الكاسحة لأغاني المهرجانات، بأشكال ساذجة كما في أغنية "ما بقاش يناسبك"، التي لحنها محمد يحيى. يأتي التبسيط اللحني ملائماً لأسلوب غناء "المونولوجوست"، في لحن لطالما تم تكراره. 

المخيب هي تلك الصيغة الشعرية المبتذلة، فهو يوجه حديثه لمحبوبة سيهجرها: "ما تفوق يا عم أنا همشي أقول في الشارع هيه، أنا حعمل مهرجان وخلاص حنسى اللي بينا مهما كان". لم يكن لمقام النهاوند بشخصيته الشجية أي إمكانية لترميم هذا المستوى بأي شكل من الأشكال.

ربما أراد السخرية من أغاني المهرجانات، إما باعتبارها صيغة ارتجالية، أو أنها ممكنة لأي شخص يصرخ في الشارع. مع هذا، يبدو أن عمرو دياب ليس النجم الأول وحسب، بل الأفضل وسط مشهد غنائي يهيمن عليه الغث. وإشكاليته تعود إلى اختفاء المنافس، فمعظم مغني جيله تآكلهم النسيان، ويبدو أنّه هو نفسه يعيش هذا الكابوس. ربما ذلك ما استدعاه للحديث عبر برنامج للحديث عن ألبومه. كان في السابق لا يشعر بالحاجة إلى ذلك. لعل ظهوره سيزيد إن شعر أن نجمه مهدد بالخفوت. لكن ما الداعي لأن يصدر كل عام بألبوم؟

المساهمون