المشعوذون في روسيا... الالتجاء إلى الغيب احتجاجاً على الواقع

المشعوذون في روسيا... الالتجاء إلى الغيب احتجاجاً على الواقع

24 فبراير 2020
كشفت تقارير عن حجم الخداع والكذب في برامج الشعوذة(TASS)
+ الخط -
فيما تشهد سوق البرامج التلفزيونية في روسيا تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، في أعداد المشاهدين وحجم الأرباح، يحافظ عدد من القنوات التلفزيونية على مؤشرات عالية، ويجني أرباحاً قياسية، بفضل المحتوى غير المعهود الذي يقدم للمشاهدين، وبالتحديد برامج السحر والتنجيم والشعوذة. وتكشف بيانات شركات مراقبة جمهور التلفزيون في روسيا في عام 2019 عن أن جمهور جميع البرامج التلفزيونية التعليمية والعلمية والثقافية والدينية في روسيا، أقلّ بثماني مرات من جمهور برامج "الوسطاء الروحيين" والمشعوذين والمنجمين. وفي ظل الفراغ الروحي الذي تعيشه البلاد، وانعدام الثقة بالمستقبل، يأمل معظم الروس عدم انطباق قاعدة "كذب المنجمون ولو صدقوا" عليهم، علّهم يجدون حلاً للمشكلات الاقتصادية، ويستدلون على الطريق إلى الغنى والاستقرار والتغلب على صعوبات العيش مادياً أو التمتع بصحة جيدة أو وصال حبيب بعيد. 

ووفقاً لمعهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، يلجأ ثلث النساء الروسيات إلى العرافين والوسطاء الروحيين والسحرة للحصول على المساعدة. فيما يأمل نحو 6 في المائة من الروس تحقيق رغباتهم بمساعدة الممارسات السحرية. وفي 2015، كشف استطلاع أعده مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" فيستيوم" عن أن 36 في المائة من الروس يؤمنون بوجود السحر، و27 في المائة يؤكدون أنهم واجهوا مظاهره شخصياً، في حين أن 15 في المائة فقط من الروس يعتبرون السحرة والعرافين دجالين.

ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، استغلت بعض القنوات التلفزيونية الروسية إيمان شريحة واسعة من الروس بالسحر والشعوذة من أجل جني مزيد من الأرباح، وسارعت إلى إطلاق قنوات متخصصة ترويجيَّة للسحر على مدار الساعة من أجل راحة الروس الروحية، وإيجاد حلول لمشكلاتهم الاقتصادية والنفسية وقراءة مستقبلهم. وفيما كشف استطلاع للرأي أعده مركز "ليفادا" أخيراً عن تراجع أهمية التلفزيون كمصدر معلومات للمواطنين الروس، وتراجع أعداد المشاهدين للبرامج التلفزيونية في روسيا من 94 في المائة في عام 2009، إلى 72 بالمئة في عام 2019، ورغم تدني شعبية الشاشة الفضية وتسجيل أكبر القنوات التلفزيونية الروسية خسائر مادية فادحة وتراجعاً في حجم جمهورها، وجدت قنوات أخرى "وصفة سحرية" بالمعنى الحرفي للكلمة، حافظت على ولاء الروس لبرامجها، وأهمها قناتا "تي إن تي" و"تي في 3" الفيدراليتان (تبثان على جميع الأراضي الروسية) المملوكتان لشركة "غازبروم" الحكومية. وحسب بيانات رسمية، تواصل قناة "تي في 3" صاحبة شعار "أول قناة مختصَّة بالأشياء الخارقة والروحانيات"، رفع دخلها بمعدل 5 في المائة سنوياً، ليتجاوز في عام 2019 خمسة مليارات روبل، مقابل خسارة أكبر القنوات الروسية وأقدمها، أي "القناة الأولى" لمبلغ 6.8 مليارات روبل، وفقدانها قرابة 13 في المئة من جمهورها.

وفي مقابل تراجع الاهتمام بالبرامج السياسية، ورغم ازدياد برامج السحر والشعوذة، يحظى برنامج "معركة المنجمين" الذي تبثه قناة "تي إن تي" منذ شباط/فبراير 2007، باهتمام نحو ثُلث متابعي التلفزة في روسيا. وحتى الآن بُثَّت 330 حلقة، والبرنامج يُعرَض في سبع دول من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وبنى معدو البرنامج فكرتهم على منافسة يسعى خلالها العرافون والسحرة والمنجمون إلى إثبات قدراتهم عبر كشف الغموض عن بعض القضايا والجرائم المجتمعية، ويكشفون بمساعدة "الأرواح" عن معلومات أو أشياء يخفيها مقدمو البرنامج.

ولم تهتز سمعة البرنامج، رغم أن وسائل الإعلام الروسية سخرت من آنا بوغاتا المنجمة التي شاركت في "معركة المنجمين" لمعرفة الخفايا، واضطرت هي ذاتها إلى اللجوء الشهر الماضي إلى الشرطة بعد تعرضها لعملية احتيال من قبل وسيط عقاري أخذ منها 50 ألف دولار كدفعة أولى، ودفعت 17 قسطاً بقيمة 5 آلاف دولار، لتكتشف خداع الوسيط وعدم وجود أي مشروع عقاري أصلاً.

وفي بداية عام 2019، عرضت قناة "روسيا 1" فيلماً وثائقياً بعنوان "الذاهبون إلى الجحيم"، وثق حالات الخداع في أثناء تصوير حلقات برنامج "معركة المنجمين"، كشفت فيه أن البرنامج، يُصوَّر وفق سيناريو معد سابقاً، وأن المشاركين يفتقرون إلى أي قدرات خارقة، وأن العمل بمجمله مشروع ربحي، مبني على خداع المشاهدين. وذكر خبراء استضافهم الفيلم أن "معركة المنجمين" حقق شهرة لعدد كبير من المشعوذين الذين استغلوا ظهورهم فيه لتحقيق ربح كبير بعد لجوء المواطنين الروس إليهم لحل مشاكلهم بمساعدة الأرواح والسحر. واتهم بعضهم المشاركين في برنامج التنجيم بدفع مبلغ 500 ألف روبل للقائمين عليه ليصلوا إلى مرحلة المنافسة النهائية، حيث تزداد شهرتهم لدى المشاهدين، ويمكنهم تحقيق كسب كبير لاحقاً بسبب الدعاية التي يوفرها لهم البرنامج ذو الشعبيّة الكبيرة.

الفيلم الذي أعده الصحافي دميتري سوبوليف، وعُرض على ثلاثة أجزاء، كشف أن المشعوذين يقنعون زبائنهم بالتخلي عن المال والممتلكات، وأن العديد من "الوسطاء الروحيين" يعملون تحت رعاية مسؤولي الأمن الذين يتلقون رشىً، كذلك فإن العديد من الوسطاء لديهم أيضاً شهادة صادرة عن "روس ستاندارت" (هيئة مطابقة المعايير في روسيا) تكلفتها عشرون ألف روبل، وهي في الواقع لا تؤكد قدراتهم الخارقة للطبيعة.

دلالات

المساهمون