"غلوريا موندي"... عالمٌ يمضي مخلّفاً الإنسان وراءه

"غلوريا موندي"... عالمٌ يمضي مخلّفاً الإنسان وراءه

20 فبراير 2020
روبير غيديغيان(Imdb)
+ الخط -
يبدأ "غلوريا موندي" (عبارة لاتينية، يُمكن ترجمتها إلى: "هكذا يبدو مجد الدنيا") لروبير غيديغيان بلقطات مُقرّبة، بالغة الواقعية، لولادة غلوريا في عائلةٍ، تدلّ المؤشّرات الأولى على أنّها تنعم بالسعادة؛ فيُظنّ، لوهلةٍ، أنّ الأمر متعلّق بدراما أسرية، ترتكز على والدي المولودة، نيكولا (روبنسن ستيفنان)، المشتغل لحسابه الخاص سائقاً لسيارة أجرة فخمة، تُحجز عبر "إنترنت"، وماتيلدا (أناييس ديموستيي)، العاملة في محلّ لبيع الملابس في مرحلة الاختبار. هذا قبل أنْ يُفصح الفيلم عن نَفَسٍ كوراليّ، تتعدّد فيه الشخصيات وتختلف نبراتها وتتشابك علاقات التأثّر والتأثير بينها: سيلفي (أريان أسكاريد، "كأس فولبي" لأفضل أداء عن دورها هذا، في الدورة الـ76 لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، المُقامة بين 28 أغسطس/ آب و7 سبتمبر/ أيلول 2019)، والدة ماتيلدا، التي تمضي ليلها في تنظيف البواخر الراسية في ميناء مرسيليا، فتتبقّى لها دقائق قليلة مع زوجها ريشار (جان بيار داروسان)، قبل انصرافه إلى عمله سائقاً للحافلة، قبل اكتمال شمس الصباح. انهماك شخصيات الناس العاديين في العمل على حساب صحّتهم النفسية وسعادتهم، الذي لا يكفي رغم ذلك لتحصينها من الهشاشة، هو لبّ طرح الفيلم القاتم والتراجيدي.

المحرّك الأول للحبكة رسالة تبعثها سيلفي إلى دانيال (جيرار ميلان)، زوجها السابق الذي يستعدّ لمغادرة السجن بعد جريمة قتل غامضة وضعته وراء القضبان، منذ أن كانت ابنته ماتيلدا رضيعة، فيحلّ ضيفاً على مرسيليا لتفقّد العائلة، ورؤية حفيدته. اللفتة المؤثّرة وغير الغريبة عن أسلوب غيديغيان ـ التي تجعل شخصية فادحة الخسارات كدانيال مرتكز الفيلم، وتضع الهامش في مركز الانتباه والتعاطف ـ تلفّ "غلوريا ماندي" (2019) بهالة من الإنسانية، التي لا تخطئ طريقها إلى القلوب.

مَشاهد مرسيليا بعيني دانيال مُفعمة بالشاعرية، خصوصاً أنّه يكتب أبيات "هايكو" لتجزية الوقت أثناء تسكّعه في كورنيش المدينة، أو في الأوقات الرائعة التي يمضيها مع غلوريا، فيغتنمها لمناجاتها حول رؤيته لمستقبلها، في ظلّ تطوّر العالم واختفاء المهن الكريمة. هذا الالتصاق بإيقاع عيش سجين سابق لا يلوي على شيء، وتباينه المطلق مع نمط العيش اللاهث والمفرط في المادية، أحد أهم مرتكزات المعادلة الجمالية للفيلم، خصوصاً أنّ نزعة الجشع تزيد تجذراً من خلال أورور (لولا نايمارك)، أخت ماتيلدا غير الشقيقة، ورفيقها برونو (غريغوار لوبرانس ـ رانغي)، اللّذين يمتلكان محلّ "كلّ شيء نقداً" (يؤطّر المخرج لوحة إشهار المحلّ طويلاً، وفي لحظات فارقة من الفيلم، لأنها تقول كلّ شيء)، ويشتريان بثمن زهيد أجهزة إلكترونية لحق بها تلف بسيط، فيُصلحانها باستغلالهما تقنييّن لا يملكون أبسط حقوق الضمان الاجتماعي، ويعيدان بيعها بهامش مرتفع من الربح.

نموذجٌ غير أخلاقي نهائياً، يختزل السيناريو به المعادلة الاقتصادية المختلّة، المتحكّمة بالمجتمع الفرنسي، فتدفع سيلفي إلى العمل ليلاً في عمرها المتقدّم، من دون أن تضمن حقّها في الراتب، مع شبح التوقّف عن العمل، الذي يقضّ ساعات نومها القليلة نهاراً، بسبب إضراب زملائها عن العمل بحثاً عن أبسط حقوقهم المشروعة. وتضع نيكولا على حافة الانهيار، بمجرّد تعرّضه لاعتداء من مجهولين، فتُكسر ذراعه، ويغدو عاجزاً عن قيادة سيارة أجرة لا يزال يدفع أقساط اقتنائها، نظراً إلى غياب أيّ تأمين يغطّي فترة استشفائه. وتخلق من ماتيلدا عبدة لصاحبة محل بيع الملابس، التي يُمكن أن تطردها في أيّ لحظة، وتوظّف بدلاً منها بائعة أخرى، بموجب عقد اختبار مؤقّت جديد.

يربط روبير غيديغيان مسارات هذه الشخصيات الهشّة، المقتربة من حافة الهاوية، بسلاسةٍ يُحسد عليها، قوامها انتقالات بارعة بين المَشاهد، يحرص على أنْ تتخلّلها بين الفينة والأخرى لحظات عيش بسيطة لا علاقة مباشرة لها بتطوّر الحبكة، ويرتبط كثيرٌ منها بيوميات دانيال.
كذلك تُحيل إلى ما فقده الإنسان بانغماسه في نمط عيش ليبرالي، وانصرافه عن كلّ ما يحقّق ذاتيته وعلاقته بعيش اللحظة، بحلوّها ومُرّها، أو ما يعرب عنه دانيال نفسه حين تسأله سيلفي عن كنه الـ"هايكو"، فيجيبها: القبض على لحظة من الزمن، وتثبيتها إلى الأبد، في بيتين أو ثلاثة.

يرسم الفيلم لوحة قاتمة عن واقع الطبقة الوسطى ـ السفلى وهشاشتها، ومدى قابليّتها للسقوط في براثن الفقر وانعدام الحيلة بين ليلة وضحاها. جانبٌ من السيناريو الجذّاب ـ الذي يُركّز في القسم الثالث على منحى التوارث أو التاريخ الذي يكرّر نفسه، بتشابه مصير ماتيلدا في فترة طفولتها ورضيعتها غلوريا ـ صرخة إدانة لسياسيين يُعيدون تغذية الآلة الرهيبة نفسها، التي تطحن البسطاء، وترميهم قرباناً لمعبد سراب حركية الإنتاج وعقيدة "اعمل أكثر حتّى تربح أكثر". عقيدة يُحيل إليها، بشكلٍ رائع، الانقلاب الدرامي في نهاية الفيلم، حين يفتتح برونو ورفيقته متجراً آخر من سلسلة "كلّ شيء نقداً"، ويخلفان وعدهما بتعيين ماتيلدا مديرةً له، فتنفجر الخلافات الكامنة في العائلة، كقنبلة موقوتة مزروعة في قلب النموذج الاستغلالي، التي تهدّد مالك رأس المال قبل العامل البسيط، وتربط مصيرهما في حلقة اندحار جهنمية واحدة.

دلالات

المساهمون