"التقرير": إثارة سياسية وتشويق سينمائي

"التقرير": إثارة سياسية وتشويق سينمائي

17 فبراير 2020
آدم درايفر: آلاف المستندات عن أميركا (مايك مارسلاند/وايرإيمدج)
+ الخط -
عام 2012، أي بعد عام واحد على مقتل زعيم "تنظيم القاعدة" أسامة بن لادن، أنجزت الأميركية كاثرين بيغولو Zero Dark Thirty (تمثيل جيسيكا تشاستن وجايزون كلارك ومارك سترونغ)، الذي تناول عملية ملاحقة بن لادن وتصفيته. ما أثار الجدل أنّ الفيلم، في سرديّته عمّا حدث، توقّف عند تعذيب المعتقلين الإسلاميين، المُشتبه بانتمائهم إلى التنظيم، في السجون الأميركية، كأنّه أمر عادي، من دون مساءلة أخلاقية، بل باعتبار أنّ التعذيب نقطة البداية التي أفضت إلى بن لادن.

هذا خطر: ترسيخ الانتهاك في أذهان مئات ملايين الناس، واعتباره عادياً وطبيعياً، وربما ضرورياً.


من هذه النقطة تحديداً، يمتلك "التقرير (The Report)"، الذي أنجزه الأميركي سكوت بارنز عام 2019، أهمية كبرى، إذْ يضع قضية التعذيب وممارسات السلطات الأميركية، في ظلّ هستيريا ما بعد "11 سبتمبر" (2001)، في المساءلة المستفيضة، لا بالمعنى الأخلاقي، بل بتقديم سردية مُختلفة عما إذا كان هذا مُجدياً، فقاد فعلياً إلى اغتيال بن لادن، أم لا.

يتحرّك الفيلم مع شخصية دانيال ج. جونز (آدم درايفر)، الموظّف في مجلس الشيوخ الأميركي، والمُكلّف ببحثٍ مستفيض عن آليات عمل وجدوى برنامج "الاعتقال والاستجواب"، الذي اعتمدته "وكالة الاستخبارات المركزية" بعد "11 سبتمبر" مع المقبوض عليهم. بدأ البحث عام 2009، وغرق جونز، رفقة مساعدين اثنين، في 6 ملايين مستند تتعلّق كلّها بتحقيقات الوكالة وموادها. هناك تنقّل زمنيّ بين الحاضر، مع جونز وأعوام بحثه المتزامنة في الفيلم مع اغتيال بن لادن عام 2011 وإطلاق فيلم بيغولو في العام التالي، وهذه يُشار إليها في فيلم بارنز، و"فلاش باك" لما حدث في التحقيقات أعواماً طويلة.

في النهاية، يكتشف دانيال جونز ما حدث، في "تقرير" مؤلّف من 6300 صفحة، فيتغيّر الصراع ليُصبح التركيز على كيفية نشر تلك الحقائق الفظيعة ليطّلع عليها الأميركيون، في ظلّ محاولة السلطة الحفاظ على صورتها الإعلامية.



منذ البداية، يُقرّر سكوت بارنز، كاتب "التقرير" ومخرجه، أنْ يقتصر عمله على مسألتي "البحث في حقيقة ما حدث" و"النضال لنشر التقرير". لا يهتمّ ولا ينشغل بتأصيل شخصية دانيال جونز مثلاً، أو بتأثّر حياته بالهوس الذي أصابه بسبب عمله الضخم، فالفيلم يخلو تماماً من أي مشهد بعيد عن التحقيقات والغرف المغلقة التي لا نوافذ لها. عدم التشتّت جعل "التقرير" مخلصاً تماماً لكونه إثارة سياسية، وهذا رهان فني ذكي، لأنّ التفاصيل التي يتحدّث عنها حاضرة جداً في أذهان معظم المشاهدين، الذين عاشوا 10 أعوام (بين اعتداءات "11 سبتمبر" واغتيال بن لادن). بالتالي، يكفي تقديم سردية عمّا حدث في الغرف المغلقة، في تلك الفترة، لجذب انتباههم، وهذا ممتاز جداً فنياً، لإيقاعه المشدود والمثير.

من ناحية أخرى، ليس الفيلم مهمّاً كسردية تاريخية عما حدث منذ وقتٍ قريب، فهو يستنتج أنّ عمليات التعذيب لم تفد التحقيقات الأميركية بأيّ شكل، لأنّ المقبوض عليهم إمّا لا يعرفون شيئاً بشكل حقيقي، وإمّا أنّهم مسؤولون فعلياً، ولديهم كافة المعلومات، كخالد شيخ محمد ورمزي بن شيبة، لكنّهم مدرّبون على التعذيب، ومستعدّون نفسياً له، ما يجعلهم يُدلون باعترافاتٍ ومعلوماتٍ مغلوطة لا تقود إلى شيء.

لا يكتفي "التقرير" بالقول إنّ هذا انتهاكٌ بلا جدوى، لا يسمح بمحاكمة عادلة لهؤلاء أمام أيّ لجنة قضائية عالمية، بسبب ما تعرّضوا له. اغتيال أسامة بن لادن يُصدَّر كمنجزٍ يُبرّر السلوكيات الوحشية المريضة للسلطة الأميركية في عهد جورج بوش. يقول الفيلم إنّ أحمد الكويتي (مراقبته أفضت إلى بن لادن) مشتبهٌ به ومُراقَب من "وكالة الاستخبارات المركزية" قبل بداية التعذيب أصلاً، وبالتالي فإنّ الترويج بكون الوصول إلى زعيم "القاعدة" ـ لأنّ المُعذّبين ذكروا اسم الكويتي (هذه الرواية الرسمية التي تبنّاها فيلم كاثرين بيغولو) ـ كذبٌ إعلاميّ وتبييض لصورة الوكالة، ولمنع الملاحقة القضائية لمن تبنّوا برنامج "الاعتقال والاستجواب" العنيف، ليس أكثر.

لهذا، يُعتبر "التقرير" أحد أهم أفلام الإثارة السياسية في الأعوام الأخيرة.

دلالات

المساهمون