ألمان في غابات نيكاراغوا السوداء منذ قرن... هذه حكايتهم

ألمان في غابات نيكاراغوا السوداء منذ قرن... هذه حكايتهم

ماناغوا (نيكاراغوا)
10 يناير 2020
+ الخط -
تقطع السيارة مسافة 140 كم ذهاباً من ماناغوا، عاصمة نيكاراغوا، إلى مدينة ماتغلبا شمال البلاد. هو هروبٌ من حرّ العاصمة، ورطوبتها ولجوء إلى أحضان غابات الشمال، ودرجات الحرارة المعتدلة.

أصل الآن لتلك الغابات قادمة من ماناغوا في ساعتين ونصف بالسيارة وبسرعة معتدلة. قبل 15 عاماً، كانت تلك الرحلة تصل إلى أربع ساعات بسبب وعورة الطريق.
على جنبات الشوارع غير المعبّدة كان الأطفال يصطفّون على امتدادها لتحصيل ما يجود عليهم المارّة من "بيسوات" معدودة، نظير تعبيدهم الطرق. التعبيد يعني أنهم يقومون بدور البلدية في ملء تلك الثقوب الأرضية السوداء، بالتراب. يُحسب لحكومة الساندينيستا أنها أعادت هؤلاء الأطفال لبيوتهم وأوكلت هذه المهمة للبلديات.

ما إن يبدأ الشمال بالظهور حتى تلوح الأعلام الحمر السود لتقول للقادم عن طبيعة التوجّه الحزبي لمعظم أبناء المنطقة. فالعلم الأحمر والأسود هو علم الحزب السانديني الذي يحكم البلاد الآن، وقاتل أفراده في تلك الجبال، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

أنت الآن وسط مدينة ماتغلبا، وستلمح اختلافاً طفيفاً في ملامح أهل البلاد، العيون الملونة، والشعر الأشقر، مع بشرة ممزوجة من البياض والسمرة.
وفي هذا اختلفت الآراء، يقال إنها بقايا تأثير الإسبان، لكن النظرية الأخرى تقول إن هذا التغير في الملامح جاء متأخراً من هجرات الألمان لا الإسبان، ولوصولهم (الألمان) هناك قصة أخرى تفوح منها رائحة القهوة وتحميسها.

مرّت الهجرة الألمانية في أميركا اللاتينية بغواتيمالا وكوستاريكا أولاً، وبهما استقرّت أكبر الهجرات الألمانية، تليها نيكاراغوا. وإذا عُرف العرب بسيطرتهم على سوق الأقمشة في هذه القارة، فقد سيطر الألمان على سوق القهوة في أميركا الوسطى خاصة.

ففي أواخر القرن التاسع عشر، قدّمت الحكومة النيكاراغوية للأجانب تسهيلات لتصدير القهوة، وشجعت المستثمرين الألمان على ذلك، بمنحهم أراضيَ أشرفوا على زراعتها وبيع محصولها، وقد ساعدهم في الانتشار تأسيس سكة الحديد وتسهيل النقل.

وصول المهاجرين الألمان لماتغلبا كان يمر عبر مدينة غرناطة النيكاراغوية، حيث ترسو سفنهم. وعلى ظهور الخيول يقطعون الطريق من جنوب البلاد إلى شمالها. لا حديث في ذلك الوقت عن تعبيد الطرق، وقد منحتهم الدولة مزارع شاسعة، شرط أن يبدأ المستثمر العمل برأس مال مقداره 2500 دولار.

كان السيد هانسبيرغ، أول الواصلين والمستفيدين من تلك التسهيلات. أراض بل غابات أشرف على زراعتها وتصدير محصولها حتى عام 1956. خلال تلك الفترة تدفق آلاف المهاجرين الألمان إلى ماتغلبا والشمال النيكاراغوي وعملوا في إنتاج وتصدير القهوة.

الغابة السوداء في  نيكاراغوا (Getty) 

حينما توفي هانسبيرغ، بيعت مزارعه لمستثمر آخر هو رينالدو ريفيرا الذي توفي عام 1974. بموته قرّرت أرملته بيع مزارع القهوة لتقع في يد عائلة كول الألمانية، التي قرّرت أن تمزج هذا الاستثمار الاقتصادي بحكاية مرتبطة بالهجرة والعائلة.

فإلى جانب العمل في إنتاج وتصدير القهوة، بنت عائلة كول بإدارة السيد "إيدي كول" والسيدة "ماسي آيدن" التي روت لي تاريخ المكان، بنوا منازل لهم وأكواخاً للضيوف، بتصميم ألماني في محاكاة لحياتهم السابقة في بلادهم. أبعد من هذا، فقد صمّمت العائلة مدافئ ومداخن في تلك الأكواخ دون حاجة ماسّة لها، وحوّلت قسماً من الأرض إلى فندق ومطعم يقدّم للزبائن الطعام ومشروب القهوة مما تنتجه الأرض التي أطلقوا عليها "الغابة السوداء"، مستلهمين ذات الاسم الأشهر بين غابات ألمانيا.

جزءٌ من المكان يحكي قصة المهاجرين الألمان في نيكاراغوا، من بينهم قصة الضابط الألماني كارت. كان كارت مشاركاً في الحرب العالمية الأولى وهو يحتفظ بدفتر شخصي في جيب قميصه من جهة الصدر، وكان ذلك الدفتر من أنقذه من الموت حينما قرّرت رصاصة أن تتجه نحو صدره مباشرة. يبدو مسار الرصاصة واضحاً من خلال الثقب الذي أحدثته في الدفتر وفي قصاصة جريدة كانت مطويّة داخله. هاجر كارت إلى نيكاراغوا عام 1922، وتزوج من سيدة من ماتغلبا ولم يعد لألمانيا بعدها، لم يبق له من ذكرى بلاده سوى ذلك الدفتر الذي أنقذ حياته.

بعيدون عن الحرب إذاً، وبين مزارعهم الوادعة والطبيعة الهادئة والجو اللطيف، عمل المهاجرون الألمان دون منغصّات حتى الحرب العالمية الثانية. ولأن الحكم في نيكاراغوا في ذلك الوقت (أربعينيات القرن العشرين) كان تابعاً لسياسات الولايات المتحدة، فقد اضطهدهم الرئيس السابق أناستاسيو سوموسا غارسيا، وسجن بعضهم وضيّق على أعمالهم.

يضم المكان أيضاً صور من زاروه، أو من تركوا تأثيراً على ثقافة المهاجرين الألمان الذين اندمجوا كلّيا في الحياة الجديدة، وباتوا لا يتقنون من الألمانية سوى كلمات معدودة.

المساهمون