زياوشواي: "الفرد هشّ حيال المجتمع والفن يردّ له الاعتبار"

وانغ زياوشواي: "الفرد هشّ حيال المجتمع والفن يردّ له الاعتبار"

24 يناير 2020
زياوشواي: التشكيك سبيل للتطوّر (سامي عبد الله/ العربي الجديد)
+ الخط -

مع "وداعاً، ابني"، يقدّم المخرج الصيني وانغ زياوشواي أحد أجمل أفلام 2019. فاز بجائزتي أفضل ممثل وأفضل ممثلة، لوانغ جينغشون ويونغ ماي، في الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي".

انطلاقاً من موضوع سياسة الطفل الواحد، أو ما يُسمّى في الصين بـ"تنظيم الأسرة" (1978 ـ 2015)، يصوّر مخرج "أمنيزيا حمراء" (2014) ملحمة ميلودرامية تمتد على نحو نصف قرن من التاريخ الصيني، بدءاً من الثورة الثقافية. 30 عاماً من سيرة عائلة، تبدأ في الثمانينيات الماضية، وتنتهي في الحاضر. حكاية أبوين، يقضي ابنهما الوحيد غرقاً، فيضطران إلى التبنّي. إلاّ أنّ الابن هذا يلوذ بالفرار عند بلوغه سنّ المراهقة.

وانغ زياوشواي، المعروف بإلمامه في نقل تحوّلات بلده إلى الشاشة، يُقدِّم تجسيداً بهياً لحقبة كاملة، من وجهة نظر الطبقة العاملة، حيث تتعايش السياسة مع الفرد والمشاعر المعقّدة، حيناً بهدوء وحيناً بصخب.

هنا حوار أجرته "العربي الجديد" مع وانغ زياوشواي.

تسرد حكاية الفيلم سرداً غير خطي. هل هذا ما كنتَ تطمح إليه منذ البداية؟
بدأتُ الكتابة محاولاً التعامل مع الأحداث بطريقة كرونولوجية، أي بالتسلسل الزمني الصحيح. النسخة الأولى من السيناريو كانت جاهزة لتخدم هذه الفكرة، إذْ طلبتُ من كاتب السيناريو أنْ يُدرج فيها الأحداث الأساسية كلّها. ثم عملنا على التحقيق، لكن التحقيق لم يكن ممكناً. إذا أردتَ إنجاز فيلم كهذا، بناءً على تطوّر خطي، عليك أنْ تُعرّف عن حقبات زمنية كثيرة، وعن التغييرات الكبرى التي طرأت على الصين، فيغدو الأمر أشبه ببناء مدينة كاملة. من هنا استحالة سرد الحكاية بطريقة تقليدية، كما عهدناه في أفلامٍ كثيرة. أمام هذه الصعوبة، تراجعتُ وقررتُ المضي في إعادة صوغ السيناريو على طريقتي. أدرجتُ التغييرات، التي حدثت على مدار 3 عقود، في إطار قصصي، لتبدو في النهاية كأنّها تحدث في يومٍ واحد. في الحقيقة، أخذتُ على عاتقي مجازفة كبيرة: لم أؤرّخ الأحداث التي تمرّ على الشاشة، إذْ لم أكن أنوي أنْ يُتابع المشاهدون مراحل معينة. أردتهم متابعة القصّة والشخصيات بغض النظر عن المرحلة.

الفيلم دقيق في مسألة: أية معلومة يجب أن يقدّمها في أية لحظة. هل شكّل هذا تحدياً لك؟
في الحقيقة، وددتُ أنْ أترك لدى المشاهدين مقداراً من الشكّ. أعترف أنّي أردتُ أنْ ألعب بعض الشيء مع المُشاهد.

لماذا هذه الاستراتيجية ضرورية عندك؟ هل يمكن بلورة الفكرة؟
هي الحياة هكذا بشكل عام. غالباً، لا يمكن أنْ ترى السبب أولاً، ثم التداعيات. في معظم الأحوال، عليك العودة إلى الخلف لتكتشف ما هي الأسباب التي أدّت إلى النتيجة. سأعطيك مثلاً لمقاربتي السينمائية هذه: هناك ابن يعيش مع أهله بالقرب من البحر. هو في الحقيقة ابن بالتبنّي، لكنّي لا أظهر كيف تم تبنّيه. في المقابل، سنكتشف تدريجياً أنّه ابن بالتبنّي. هكذا يحلو لي تقديم المعلومات، على مراحل وليس دفعة واحدة. في النسخة الأولى من السيناريو، عمل معي عليها كاتب آخر، وكان الأسلوب الذي نتبعه تقليدياً أكثر، يتضمّن مزيداً من التفاصيل عن الأهل، الذين يتوجّهون إلى الميتم لاختيار الطفل، مع كلّ ما يرافق هذا من إجراءات. إلّا أنّنا أدركنا أنّنا إذا قاربنا السيناريو برمّته بهذه الطريقة، سيصبح طول الفيلم 8 ساعات بدلاً من 3.

مرور الزمن في الفيلم توحيه نوتات موسيقية تصبح جزءاً لا يتجزأ من الفيلم بعد فترة. بأيّة طريقة تعاملتَ مع المؤلّف الموسيقي في هذا المجال؟
اختيارنا الأغاني كان لتذكير المشاهدين، خصوصاً الصينيين منهم، بحقبات زمنية معينة اشتهرت خلالها هذه الأغاني. إلا أنّ هناك أغنية واحدة ستذّكر المشاهدين جميعهم، لا الصينيين فقط، بحقبة معينة، وهي: "أنهار بابل" لبوني أم.

الفيلم ينطوي على مواضيع كثيرة، كالثورة الثقافية وقضايا اجتماعية خطرة. هذا كله مغلّف بحسّ ميلودرامي عالٍ. ما علاقتك بهذا النوع السينمائي؟ أخبرني أيضاً إذا كان لك ارتباط بأحد المخرجين الذين برعوا في هذا المجال.
أكثر ما يتلف أعصابي عندما أشاهد فيلماً أو أصنعه، هو الوقوع في الميلودراما. لذلك، أستطيع القول بكلّ صراحة إنّ السينمائيين الذين أنظر إليهم بإعجابٍ شديدٍ لا يستخدمون هذا الأسلوب في سرد قصصهم. صحيح أنّ الفيلم يتضمن مَشاهد عديدة تجعلني، وتجعل المتفرّج، يذرف الدموع متأثراً ومنفعلاً، إلا أنّي بذلتُ جهداً كثيراً كي لا يحصل ذلك بوضوح ومباشرة. كلّ ما وددته هو أنْ أعاين تأثير التراجيديا في الفرد. لكن، في المقابل، إذا بكى المُشاهد، فهذا حسنٌ بالنسبة إليّ.

إلى الدراما وحكايات الناس، نجد أيضاً رؤية سياسية واضحة للصين. هذه رؤية تتسم بالنقد حيال التغييرات التي طرأت على الصين طوال تاريخها المعاصر. خلال إنجاز الفيلم، هل تساءلت عمّا إذا كنتَ شديد القسوة حيال تاريخ بلدك؟

نقد التاريخ الصيني ومراجعته شكّلا دائماً تحديّاً للسينمائيين الصينيين. لكن، بالنسبة إليّ، الأمر مختلف. أياً تكن البيئة التي أصوّرها أو أنقلها إلى الشاشة، ومهما تكن الأفعال التي تقوم بها الحكومة، فالسؤال البديهي عندي هو إذا كنتُ أملك قصّة جيدة تُحدث صدى في المُشاهد أو لا. يهمّني جداً ألا ينمو رقيب ذاتي في داخلي. أعتقد أنّ مراجعة التاريخ ومعاينة التبدّلات الاجتماعية جزءٌ من مهمّة الفنان. لطالما كان الفرد ضعيفاً وهشّاً حيال المجتمع، وأعتقد أنّ الفنّ يردّ له الاعتبار. الصين مكان خاص جداً لصناعة الأفلام، لكن ما أفعله عادةً هو أنْ أستمدّ الوحي من تجارب الناس العاديين. لو كنتُ سينمائياً أميركياً، لانتقدتُ بالتأكيد الحكومة الأميركية. النقد والتشكيك هما سبيلنا إلى التطوّر.

كسينمائيّ مستقل، أيزعجك اضطرارك الدائم للحديث عن الرقابة الصينية أينما حللتَ؟
صحيح أنّني أجد بعض الصعوبة في الحديث عن هذا الشأن، لكنّي لا أمانع. ببساطة، تكمن الأزمة في أنّ المشاكل السياسية العديدة في الصين لا يمكن اختزالها وشرحها بسطر أو سطرين في مقابلة. هذه مسائل يصعب التعامل معها. هناك جماعة صينية معينة تقيم في 3 أرياف تقع في شمال شرق البلد. ما يميز هؤلاء هو أنّهم، مهما فعلوا، يفعلونه من خلال تداخل العلاقات الشخصية. لا يذهبون إلى مطعم لتناول وجبة طعام، بل يبحثون عن شخص تربطه علاقة شخصية بصاحب المطعم. هكذا في أفعالهم كلّها. شيء معقّد جداً. هكذا هي الصين.

الشخصيات في الفيلم في مناكفة مع ماضيها. هل يمكن التعميم والقول إنّ هذا ينسحب على المجتمع الصيني بأكمله؟
هؤلاء الذين يقومون بمراجعة التاريخ في الصين هم أفراد. على المستوى العام، لا السلطة ولا المجتمع مستعدان للعودة إلى الخلف والنظر في الماضي. السؤال الأساسي الذي أطرحه: أيّ إنسان تريد أنْ تكونه؟ إلى أي معسكر تجد نفسك منحازاً؟ معسكر البوح أو معسكر الصمت؟ في الفيلم، نرى شخصياتٍ أصبح الذنب بالنسبة إليها حملاً ثقيلاً. لكن، في النهاية، يزيحون هذا الحمل عن ظهورهم. إزاحة الحمل عن الظهر تريح الإنسان. هذا ينسحب أيضاً على مستوى الوطن، أو على مستوى الحكومة. لكن مواجهة الماضي في نظري تجعل الأشياء أفضل.

في الفيلم حبٌّ وعواطف، لكننا نرى أيضاً وحدة. ما مكانها في سينماك؟
الوحدة تيمة كونية يعيشها العالم بأسره. الصينيون كثيراً ما يحاربون الوحدة من خلال اللجوء إلى الأسرة والتجمّعات العائلية. عادةً، الناس العاديون لا يفكّرون في الوحدة كثيراً. يعتقدون أنّهم في الحيّز الآمن من الحياة إذا كانت أوضاعهم جيّدة اقتصادياً، وعلى علاقة بأصدقاء، وهناك عائلة تحميهم. الوحدة كفكر وفلسفة أرض خصبة للشعراء والفلاسفة، وللسينمائيين أيضاً.

ماذا عن التحوّلات المعمارية التي طرأت على الصين في العقدين الأخيرين؟ ألم تجعل تصوير فيلم تاريخي صعباً؟
هذا تسبّب لنا دائماً بصداع كبير. خصوصاً عندما كنّا نبحث عن مواقع تصوير مناسبة. المباني القديمة تمّ هدمها. سابقاً، قطعتُ على نفسي وعداً بألا أصوّر فيلماً عن الماضي. لكنّي عدتُ ووقعتُ في الفخّ نفسه مع "وداعاً، ابني"، فاضطررتُ إلى بناء بعض المباني كديكور. خلال أحد العروض، بعض المشاهدين التقوا المدير الفنّي وعبّروا عن إعجابهم بالأماكن التي صوّرنا فيها، وسألوه عن العناوين لزيارتها، الأمر الذي أغضبه فأفهمهم أنّه بنى كلّ شيء.

هل كنتَ تريد نهاية سعيدة للفيلم منذ البداية؟
لا يُمكن اعتبارها نهاية سعيدة بالمعنى المباشر. طبعاً، هناك المصالحة الصامتة بين العائلتين، وعودة الابن الذي كان موجوداً في الطرف الآخر من البلد. لكن خلف هذه الصورة "الإيجابية" التي أقدمّها، هناك تراجيديات كثيرة، ربما لا تراها من النظرة الأولى.

هل حصولك على جائزة من مهرجان برلين يساهم في الإقبال الجماهيري على الفيلم في الصين؟
لديَّ جائزة عن أحد أفلامي السابقة، لكن في الصين الحالية لا يُمكن المراهنة على مثل هذه الجوائز لجذب الجمهور إلى الصالات. حتى إن بعض المُشاهدين يعتقد أن أيّ فيلم ينال جائزة في "كانّ" أو "برلين" فيلمٌ تصعب مُشاهدته وفهمه. لذلك، الفوز بجائزة لا يعطي الفيلم بالضرورة فرصة إضافية لملاقاة الجمهور.

دلالات

المساهمون