ثريا الحضراوي: الملحون حيث يؤنث ويعول عليه

ثريا الحضراوي: الملحون حيث يؤنث ويعول عليه

22 يناير 2020
الحضراوي: لا أنتمي لوسط يغني فن الملحون (فيسبوك)
+ الخط -
لم تكن ثريا الحضراوي، تلك الفتاة الصغيرة التي أحبت الغناء الصوفي، تدرك أنها ستصبح يوماً إحدى أهم رموز فن الملحون في المغرب، الذي ظل لسنوات حكراً على الرجال، قبل أن تتلقفه وتتعلمه على يد أحد المشايخ المغاربة، لتبدأ مشروعها الغنائي. واستطاعت من خلاله في مدة قصيرة أن تخلق الحدث داخل المغرب بأدائها اللافت، عاملة بعد كل هذه السنوات على تقديمه في أرقى السهرات في مختلف دول العالم. من دون أن ننسى ثريا الحضراوي وشهرتها داخل مغرب الثمانينيات ككاتبة وصحافية في مجلة "الكلمة" التي تعرضت للمنع في ذلك الوقت، بعد صدور أعداد قليلة منها. لكن فن الملحون أخذ وقتها وانصاعت له بشكل كلي. 
في هذا الحوار تتحدث عن تجربتها لـ"العربي الجديد"، وتشابكاتها.

- الفنانة ثريا الحضراوي، أولا، أنت خريجة شعبة الفلسفة وترأست في بداية الثمانينيات تحرير مجلة "الكلمة" التي تعرضت منذ صدور أعدادها الأولى للمنع. حدثينا بداية عن هذا العبور من الفلسفة نحو الملحون؟
* في الواقع، لم أنتقل من تدريس الفلسفة مباشرة إلى غناء الملحون، فقد مررت بتجربة الصحافة، بالإضافة إلى تجارب أخرى، كالعمل في جمعيات ثقافية ونسائية، إلى جانب الغناء في مجموعة الشعلة، وتكوين ثنائي مع عازف العود إسماعيل حمدي. أما التحول فقد تم بشكل طبيعي، لأنه كان تعبيراً عن أجوبة لأسئلة داخلية. لم يكن وارداً بالنسبة إلي، أنا خريجة شعبة الفلسفة، ألا أطرح سؤالاً من قبيل: ما اللون الغنائي الذي يناسبني؟ لم يكن بالإمكان بالنسبة لي اتباع موجة ما. كان لا بد لي وأنا العاشقة للكلمة وللموسيقى "الكبيرة"، كما يسمونها في الغرب، من أن أتوقف عند مادة الغناء التي أريد الاشتغال عليها. ورغم ذلك، فإن اختياري للملحون لم يكن فقط اختياراً يتحكم فيه ما هو عقلاني، بل هو نتيجة عشق بالمعنى الصوفي للكلمة، بعد لقائي بالشيخ الذي لقنني مبادئ غنائه وإيقاعاته.

- لتقريب القارئ العربي أكثر إلى عوالمك الفنية. ما هو الملحون؟ وما الذي يمثله لك مقارنة مع الألوان الغنائية الأخرى؟
* الملحون هو فن غنائي مغربي يعتمد على القصيدة كأساس. هو تراث شعري مغنى. والشاعر هو نفسه الناظم والملحن. تتم عملية الكتابة والتلحين في الفترة نفسها، بحيث لا تسبق الكتابة اللحن. هذا النوع من الشعر المغنى له شعراؤه الكبار، كالتهامي المدغري، قدور العلمي، الكندور، الغرابلي وغيرهم من الذي أثروا الخزانة المغربية بأجمل القصائد. بعد كتابة قصائدهم، كان الشعراء يختارون المغني الجيد القادر على تقديم قصائدهم وإنشادها. يقوم الشاعر نفسه بتعليم قصيدته لهذا الأخير. الإبداع في هذا التراث انتهى طبعا مع دخول الاستعمار الفرنسي، بداية القرن العشرين، لأنه دمر النسق الاجتماعي التقليدي الذي أفرز فن الملحون. من المعروف أن هذا الفن ازدهر في المدن التقليدية، كفاس ومكناس ومراكش وسلا، في دوائر التعاضديات الحرفية، وأغلب ممارسيه كانوا حرفيين هواة للكلمة والنغمة الجميلة، يجتمعون خلال نزهة يوم الجمعة للاستمتاع بالكلام والصوت الجميل والمبارزة فيه.


- لعب الجد والجدة دوراً كبيراً في طفولتك، كيف ساعدك ذلك في عشق الملحون ورحلة البحث عن صوتك داخل هذا الفن، الذي كان في الأساس حكراً على الرجال؟ ثم ما شعور الأوساط الفنية لأول وهلة وهم يستمعون إلى الملحون بصوت نسائي؟
* بالنسبة للشق الأول من السؤال، لا أنتمي لوسط فني يغنى فيه فن الملحون، لأنني لا أتحدر من مدينة تقليدية، ولكنني ترعرعت في بيئة غنية بموسيقى أخرى وبالحكايات والأمثال الشعبية. جدي وجدتي وكذلك عماتي ساعدوني على امتلاك حس جمالي. أهدوني للانتشاء بالكلمة الجميلة. جدتي كانت حكواتية ممتازة. وعماتي يغنين في المناسبات. كما كل العائلات المغربية قبل غزو التلفزيون للمجال الأسري. هذا الاهتمام بالكلمة في الصغر هو الذي أدى بي إلى عشق الشعر المكتوب في ما بعد. ولما اكتشفت الملحون فكأنني عدت لحكايات جدتي. كما أنني لم أدخل للملحون كغازية لمجال رجالي، بل كعاشقة، ففي حياتي العادية لا أتعامل مع نفسي كنوع أو كجنس، بل كإنسانة. ولم أعر الموضوع انتباهاً إلا بعد ما أثارته الصحف الوطنية. كان الأمر في صالحي طبعا لأن المفارقة أحدثت المفاجأة. كان هناك استحسان كبير للأمر، أي أن يؤنث الملحون أداء، ولو أن أغلب مواضيع الملحون مؤنثة. الشجاعة في الأمر بالنسبة لي تتمثل في الإقبال على تراث كان في جمود، وتجريبه أو تقديمه بشكله، هذا جعل المغاربة كأنهم يكتشفونه من جديد.


 



- منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم، سجّلتِ عشرات الألبومات الفنية التي ترسخت من خلالها ثريا الحضراوي كفنانة متميزة ورائدة لهذا النوع الغنائي التراثي، الذي بدأ وهجه يخفت على قنوات التلفزيون المغربي. في نظرك ما هي الأسباب التي ساهمت في تقلص إشعاع فن الملحون داخل المغرب؟ مقارنة مع دول أخرى مثل فرنسا وبلجيكا، التي نعاين دوما حضورك داخل مهرجاناتها؟ 
* الغياب ليس غياباً للملحون فقط، بل لكل أنواع التراث المغربي وللتجارب الجادة. أظن أن هناك سياسة عاملة لنشر الرداءة في جميع المجالات، وإبعاد أو إلهاء الجمهور عن الإبداع الجاد. هذا يدخل في إطار النظرة للثقافة بصفة عامة. فإما أن تكون قاطرة للتنمية فتتم بالإبداع، أو نفرغها من محتواها ونقدم البدائل الرديئة على أساس أنها ثقافة أو فن. 


- أنت لستِ مغنية ملحون فقط، بل مجددة له، وخاصة أنك حاولت إقحام هذا الفن داخل عدد من الآلات الموسيقية الحديثة وأيضاً مع عدد من الفرق الموسيقية العالمية، مثل عازف البيانو الروسي الشهير ناباتوف. إلى أي حد يستطيع هذا الانفتاح التقني على تجديد فن الملحون التعريف به عالميا؟ 
* أولا، كلمة تجديد لا توافقني لأنني لا أعتبر نفسي مجددة للملحون أو الطرب الأندلسي أو الغناء الصوفي الذي أقدمه. لكنني أحاول تقديم هذا التراث بشكل حي يعبر عن حيوية وجدة هذا التراث. كل تراث كبير هو جديد ويجب البحث فيه عن مكامن الجدة. ولكي تتحقّق هذه الجدة يجب أن يكون المرء رائياً في نظرته للأشياء، وهذا لا يتأتى لأي كان، بل يجب العمل على الذات وإفراغها من عدة شوائب لكي تتعرف على ما هو حي في أي إبداع، سواء كان مكتوبا أو مسموعا، لأن المشكلة مع التراث في العالم العربي تتمثل بأنه يُتعامَل معه كشيء ميت عوض وضع إصبعنا على القلب النابض فيه، انطلاقا مما هو حي فينا ومن حولنا. 
ثانياً، الانفتاح على موسيقيين عالميين أشبه بلقاءات حوارية عن طريق الموسيقى، كل من موقعه. الروسي سيمون ناباتوف، عازف الموسيقى الكلاسيكية، يعمل من موقعه كحامل لتراث معين، والأمر نفسه بالنسبة لي. والحقيقة أنني تعلمت الكثير من هذه التجارب مع هولنديين وفرنسيين وغينيين، احتكت تجربتي بهم، واستطعت من خلال تراثات أخرى وموسيقى الشعوب والجاز أن أرى ما أحمله من موسيقى بنظرة أضافت الكثير لطريقتي في الغناء والفهم، لأن الغناء هو تعبير عن طريقة للعيش في الحياة. لأن الصوت يختزل كل شيء. بمعنى أن تستمع لصوت لتتعرف على الفرد، مدى صدقه أو عمقه أو سطحيته.. والتعامل بهذه الطريقة في الغناء يلقى استحسانا في الغرب، لأن المستمع المهتم بهذه الفنون إنسان عارف. 

- ماذا عن الفرق الموسيقية العالمية الأخرى، كيف تم إجراء هذا التعارف والتعاون؟ وما هي الصعوبات التي اعترضت مسار هذا التعاون، وخاصة أن فن الملحون عبارة عن قصائد شعرية بلغة عربية فصيحة ومتشعبة المعاني؟ 
* تم هذا التعارف عن طريق بعض المهرجانات كما هو الأمر بالنسبة للهولندية Corrie van Binsbergen، أو عن طريق مؤسسات ثقافية دولية مثل معهد غوته الدولي بالنسبة لسيمون ناباتوف. لذلك فإن لغة الإبداع لا تمثل عائقا أبدا في هذه اللقاءات، بل بالعكس هي شيء مضاف. لم تكن هناك صعوبات أبدا، لأن هناك رغبة شديدة في الانفتاح على الآخر من طرف الجانبين، بل هناك متعة حقيقية في البحث والكشف عن المشترك رغم الاختلاف.

المساهمون