"إنقاذ" الكوكب بتدوير مخلّفات ناسه

"إنقاذ" الكوكب بتدوير مخلّفات ناسه

22 يناير 2020
"إنقاذ" لإيمي سي إيليوت: قيمة الأشياء (من الفيلم)
+ الخط -
هل صحيح أنّ قمامة فرد أو مجموعة أو مجتمع يُمكن أنْ تكون كنزاً لآخرين؟ يحاول "إنقاذ"، الوثائقي الجديد للأميركية إيمي سي إيليوت، الإجابة على هذا السؤال، وعلى أسئلة أخرى أيضاً، بتقديمه رسالة عن الاستهلاك والبذخ، وعدم إدراك قيمة الأشياء بين أيدي البشر، وقلّة الوعي إزاء ما ينجم عن السلوكيات الاستهلاكية الخاطئة من تبعاتٍ، تؤثّر علينا وعلى محيطنا الجغرافي، وعلى البيئة وكوكب الأرض أيضاً. هذا في عالم مليء ببضائع استهلاكية رخيصة، زرعت في البشر عادات استهلاكية خاطئة، ونمّت لديهم عدم الاكتراث بقيمة الأشياء، وبتعظيم الاستفادة منها على أكمل وجه.

مع التطوّر الذي يعيش البشر فيه، ترفل مجتمعات، وأحياناً مدن وتجمّعات سكّانية، في رفاهية لم تكن متاحة سابقاً؛ مقارنة بماضٍ قريب خيّمت عليه الحروب والمجاعات، ونقص المواد والسلع الأساسية. لذا، عرف كثيرون قيمة الحرص والتوفير إلى درجة التقطير، تقديراً لقيمة الأشياء، بسبب ندرة الحصول عليها. لكن، في ظلّ الوفرة، والمُقابِل الزهيد، وسهولة الحصول على أيّ شيء، صارت الوفرة نقيضاً، بل العدوّ الأول للتوفير. يحدث هذا في عالمٍ تتقلّص فيه، يومًا بعد يوم، المساحات المخصّصة للتخلّص من النفايات الصناعية والقمامة البشرية والبضائع الاستهلاكية؛ مع تقلّص المساحات الخضراء والأمكنة النقية، صديقة البيئة.

يتميّز "إنقاذ" بأنّه لا يعظ، ولا يوجّه إدانات مُباشرة إلى المشاهدين. لذا، كان وقع رسالته قويّاً ومؤثّراً. تدريجياً، يدخِل الفيلمُ مُشاهده في عالمه، ويشعره بالمسؤولية، ويجعله يُدرك مدى تقاعسه تجاه نفسه ومجتمعه وكوكبه، وخطورة التحوّل التدريجي، جزئياً أو كلياً، إلى مُستهلكين كسالى، ضمن ثقافة استهلاكية واسعة، تهدف إلى تحويل الناس، يوماً تلو آخر، إلى مجرّد كائنات مُستهلِكة إلى أقصى حدّ ممكن.

في فترات مُتقطّعة، ممتدّة على 5 أعوام تقريباً، صوَّرت إيمي سي إيليوت فيلمها في "يلونايف" (كندا)، حيث يوجد مكبٌّ هو الأكبر في أميركا الشمالية، سُمح لأبناء المدينة وضواحيها، حتى انتهاء تصوير الفيلم، بالبحث والتنقيب فيه. "يلونايف" حديثة نسبياً، تأسّست عام 1935، مع اكتشاف مناجم الذهب. بعد نضوب المناجم، وهجرة معظم السكان، انتعشت مجدّداً مع اكتشاف الألماس في الجبال المحيطة بها، فجذبت المدينة باحثين كثيرين عن فرص عمل في مجال التعدين والخدمات المرتبطة به.

نظراً إلى البُعد النسبيّ للمدينة، وحداثة تركيبتها وطبيعتها القائمة على اجتذاب البشر أو طردهم، وكذلك صعوبة النقل وتكلفته، لا يأخذ معظم السكّان المغادرين متعلقّاتهم وأغراضهم معهم. هذا سببٌ رئيسي في كون المكب، الواقع على أطراف المدينة، زاخراً بكنوز لا حصر لها من المواد القيّمة، ما أسفر عن وجود نوع من السكان يعتاش على أعمال البحث والتنقيب عن الأشياء الثمينة.

يُطلق هؤلاء على أنفسهم لقب "المُنَقِّبون". بينهم كتّاب وفنانون ومحامون وسياسيون وأطباء وجيولوجيون. بعضهم يتحرّك بدوافع أخلاقية، مرتبطة بالبيئة والحفاظ عليها. بعضهم الآخر يعتبرها هواية مفيدة لا تضرّ كثيراً. هناك من يهدف إلى الخروج بأشياء ثمينة لا تخطر على البال، فيحقّق بفضلها استفادة شخصية، أو يتربّح من بيعها عبر "إنترنت". بصرف النظر عن الدوافع، يؤمن الجميع بأن ما يقومون به شديد الأهمية، وليس تبديداً للوقت أو الجهد.

في النهاية، صار الأمر بالنسبة إلى السكّان تقليداً خاصاً بالمدينة، أو طقساً أسبوعياً يحرص كثيرون منهم على القيام به. كذلك، ينطوي الأمر على قدر كبير من الثقافة والوعي من جانب البشر بالبيئة المحيطة بهم وحرصهم عليها، ويُعدّ نموذجاً لكيفية تفاعلهم مع الجغرافيا حولهم، وتأثيرها عليهم.

تفتتح إيمي سي إيليوت "إنقاذ" بصورة بانوراميّة عريضة للمكب: إطارات سيارات، وصناديق كرتونية وبلاستيكية، وكراس وطاولات وأدوات منزلية، بالإضافة إلى مواد للبناء وأطعمة وزلّاجات وألعاب أطفال ودرّاجات، إلخ. وسط هذا كلّه، هناك امرأة تنبش في بعض المخلّفات، وتعثر فجأة على كيسٍ أبيض يظهر تدريجياً أنّه فستان زفاف نظيف للغاية، ولا تشوبه شائبة. تضحك بفرح كبير، وتقول: "لقد نجحت"، ضامة الفستان إلى صدرها لترى إنْ يُناسِب قياسه جسمها. قبيل نهاية الفيلم، وأثناء زيارة بيتها العامر بمقتنياتها من المكب، تكشف المرأة عن وجود فستان زفاف آخر جديد، لم يُفَضّ من كيسه، عثرت عليه أخيراً.
بالعودة إلى المكب، هناك لقطات متكررة لأصحاب عربات دفع رباعي، أو نصف نقل، أو غيرها، باهظة الثمن، لا يبدو على مالكيها أنّهم محتاجون إلى شيء. يُنقّبون في الأكوام، مرتدين قفازات يدوية وكمّامات. وما يعيق عملهم طيور النورس التي تزاحمهم. يُذكر أنّ هناك 600 ـ 700 سيارة تزور المكب يوميًا، تأتي من المدينة وضواحيها. ما يُثير الانتباه أنّ هؤلاء يأتون كأنّهم في نزهة، إذْ يصطحبون معهم أطفالهم الصغار، الذين ينبشون الأكوام مثلهم، أو يلعبون قبل أن يعثروا على ما يروق لهم. أما عدد سكّان "يلونايف" فيبلغ نحو 50 مواطناً، ثلثهم تقريباً يعيش حياة رفاهية، والآخرون حياة يسيرة، كما يكشف الفيلم. مع ذلك، يستقبلهم المكب يومياً.

تلتقي إيمي سي إيليوت شخصياتٍ بارزة من السكان، الذين يترددون دائماً على المكب، ويعملون على حمايته، ويناهضون قرارات الحكومة بإغلاقه أو تحجيم التنقيب وتقنين عملياته. الشخصية الرئيسية صحافي يُدعى والت هامفريز، كاتب العمود الأسبوعي "حكايات من المكب". كلّ ما في منزله مأخوذ من المكب كما يقول، واصفاً إياه، بجدّية شديدة، بأنّه "كون مُصغَّر"، يدلّ على تشكيلة وبنية ومستوى وتاريخ وسلوكيات مجتمع وأفراده. لذا، فالأمر ليس عملية تسلية أو إضاعة للوقت أو نبش وتنقيب مجانيين. فالجميع يستفيدون، هواة ومحترفين وممتهني هذا العمل، وباحثين عن فضّة ونحاس وألومنيوم وأسلاك كهربائية وغيرها.

في المكب، هناك أيضاً عدد كبير من الثلّاجات وأفران الغاز المنزلي التي تحتاج إلى تصليحات بسيطة، بثمنٍ بخس. هذا ما يفعله أحد النوّاب المتقاعدين في المدينة، توني ويتفورد، الذي يُتاجر حالياً بالمخلّفات الكهربائية بعد إصلاحها. يكشف أمام الكاميرا مخزونه من المسامير وأدوات النجارة التي عثر عليها، وفرحته العامرة بها. يُفسّر الأمر بقوله إنّه منتمٍ إلى جيل قديم لم يعرف الـ"إنترنت" ولا الشراء السريع، والحصول على مسمار غير متوفّر محلياً أو يُصنع في بلد ما، كان يستغرق شهراً أو أكثر. هكذا بات يُقدّر قيمة الأشياء، فالحصول عليها لم يكن سهلاً كما الآن. لذا، يحاول تحقيق أقصى استفادة أو استغلال لتلك المواد: "نعيش في عالم يتمّ فيه التخلّص من كلّ شيء طالما أنّه لا يعجبنا، أو لم نعد نريده، أو أخذنا غايتنا منه". يتحدّث ويتفورد وهو يصنع أعشاشاً للطيور وصناديق للبريد بالمسامير والأخشاب. بالنسبة إليه، إعادة التدوير ليست إعادة المواد إلى أصلها لاستخدامها مجدّداً كمواد خام، فالمفهوم أعمق وأشمل: "صنع أعشاش كهذه أو غيرها يدخل في مفهوم إعادة التدوير أيضاً".

الجيولوجية ديان بلدوين مهتمّة بالبحث عن كل ما يتعلق بالتربة، كالبذور والنباتات والأخشاب وأدوات البناء. تتحدّث عن ظروفها المأسوية، فهي ابنة عائلة فقيرة. تقول إنّها لا تفهم "سياسة التخلّص من الأشياء"، وإنّ جزءاً ممّا تفعله "ثقافة وفلسفة" أيضاً. شيّدت نحو 40 حاوية قمامة كبيرة، وأقفاصاً عديدة للحيوانات والطيور، بفضل مخلّفات المكب: "هذه ليست الطريقة التي يُفترض بنا أنّ نعامل بها كوكبنا"، إذْ يجب الحفاظ على الأشياء، وعدم الاعتياد على الاستهلاك. تضيف أنّها كلّما ذهبت إلى المكب أصيبت بالإحباط والحزن والاكتئاب، وأنّها تعلم أنّ الناس يسخرون منها ومما تفعله، لكنها لا تتصوّر كيف يتصرّف البشر على هذا النحو، ويدمّرون كوكبهم. فالمكبّ "صورة مُصغّرة" عمّا يحدث في الكوكب كلّه، رغم أن مدينتها ليست تورنتو أو أونتاريو، أو أي عاصمة كبرى.

يكشف "إنقاذ" أنّ الصورة ليست وردية، كما يراها المنقذون، أو "أناس المكب"، فالمكب سيُغلَق تماماً، وهذا يحدث لاحقاً، ما دفع بسكّان "يلونايف" إلى القيام بحملات توعية، آملين عقد مزيدٍ من المؤتمرات مستقبلاً، لجذب غيرهم من سكّان مدن ومجتمعات أخرى، لتبنّي فكرتهم النبيلة، إذْ إنّ مخلفات كثيرة ستمكث أعواماً طويلة في الكوكب، من دون أمل في التخلص منها. تلك باختصار رسالتهم، التي نقلتها، بكلّ صدق وأمانة، المخرجة إيمي سي إيليوت.

المساهمون