جان إيركسون: أن تفرقع العالَم كما لو أنه بالون

جان إيركسون: أن تفرقع العالَم كما لو أنه بالون

15 يناير 2020
لا يمتلك تعالي العلماء وغرور الفنانين (صفحة إيركسون فيسبوك)
+ الخط -
انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي مجموعة من الفيديوهات بعنوان "يوميات التخريب" للفنان النرويجي جان هاكون إيركسون (Jan Hakon Erichsen)، الذي نراه فيها يعلب بالسكاكين ويلصقها على جسده ليقوم عبرها بفرقعة مجموعة من البالونات ضمن وضعيات مختلفة. الفيديوهات تجعلنا غالباً نقهقه. تقدّم لنا هذه التسجيلات البصرية مفهوماً نقدياً مرتبطاً بالتجربة العلميّة، والجدية المفرطة المرتبطة بها، وكأن إيركسون يسخر من مفهوم "العلم" ونتائجه الحتميّة، وأسلوب تلقيه الجدّي، فنحن نرى الفيديوهات هذه ونحن نتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، لا ضمن الدوريات المختصة التي تمتلك أسلوباً جديّاً لـ"تخبرنا" بأن الكافيين من الممكن أن يتسبب بالأرق.
يمكن النظر إلى فيديوهات وآلات إيركسون كـ"بارودي" للتجربة العمليّة، تلك التي تتطلب بيئة حيادية و"مضبوطة"، وهذا ما نراه في بعض الفيديوهات المصوّرة، في مكان يبدو خالياً إلا من متطلبات "التجربة"، لكن ما لا نراه هو حيادية "العالم" نفسه، فإيركسون يورط نفسه بالتجربة، يرتدي "ثيابا يوميّة"، ويخترع أدواته الخاصة، ويوظف الخطر على جسده ليفجر البالون، هو ليس فقط جزءاً من التجربة، بل مهدد بأن يصاب بعطب قد يرافقه لفترة طويلة بعد الانتهاء مما يقوم به، وكأنه يطرح سؤالاً: إلى أي حد يمكن له أن يستخدم السكاكين من دون أن يؤذي نفسه؟ الأهم، أنه كلما ازداد التعقيد ازدادت القشعريرة والسخرية.

مضمون التجربة تافه، بالون يتم تفجيره، لكن هنا يسخر إيركسون من الدقة والحذر من أجل إنجاز اختبارات مشابهة، ملايين الدولارات تصرف على تجارب لا تمتلك أي أثر مباشر على الإنسانيّة، أو حتى على الأفراد المشاركين فيها، وكأنها فرقعة بالون، لا أكثر ولا أقل. كالدراسات التي يحاول فيها العلماء إخضاع الأطفال للتجارب، إذ أثبت أنها مضيعة للمال والوقت لأسباب أخلاقيّة وصحيّة. هذه "اللافائدة" تحيلنا إلى مفهوم الجهد الذي يبذله إيركسون لإنجاز كل تجربة، والذي يمكن وصفه بأنه "استمنائي"، أي لا قيمة له سوى في لحظة مشاهدته أو إنجازه، والذي تتجلى نتائجه بالمتعة والقشعريرة والرعب الذي يصيبنا حين نشاهد. الأهم أن تكرار هذه التجارب يعني النتائج ذاتها مع متخيلات مختلفة فقط عن الخطر المحتمل، هو لا قيمة له لأنه لا يراكم أي خبرة يمكن الاستفادة منها لاحقاً، ولا يكتسب المشاهد ولا حتى إيركسون نفسه أي مهارة جديدة، مجرد بنيان من الاحتمالات التي لا يمكن الاستفادة منها سوى لفرقعة البالون.
النتائج التي نحصل عليها من "تجارب" إيركسون شبه بورنوغرافيّة، هو يستعرض التجربة التي لن نقوم بها كي نستمتع ونشعر بالرضا، الذي يعتبر هدفاً فنياً في بعض المقاربات، وكأنه يسخر من تاريخ الفن وأساليب العرض المختلفة، إذ يكفي أن نشاهد فيديو قصيراً لبالون ينفجر كي ننال الرضا، إلى هذا الحد مفاهيم الجمال يمكن اختزالها، وهنا تكمن القيمة النقديّة لفيديوهاته. هو يراهن على اللعب بأقصى أشكاله، ويتبنى الخطر كجزء جوهري من فن الأداء، أي نحن نشاهد لعباً خطراً لن نقوم به، لكننا نتابع ما سيحدث لأنه مثير للاهتمام ومرضٍ. اللعب هنا يحرر إيركسون من قواعد العلم والفن، هو يخاطب الغرائز الدفينة المرتبطة بمشاهدة ما هو خطر، ما لا نجرؤ على القيام به. هو يتوجه لمخيلتنا الطفوليّة التي ترغب بالتخريب وبناء آلات لا فائدة منها.
إيركسون منفتح على الجمهور، بعض أعماله مستوحاة مما يطلبه منه متابعوه، لا يمتلك تعالي العلماء الذين يدعون معارف لا يفقهها غيرهم، ولا غرور الفنانين الذين يرون في "الوحي" و"ما يشعرون به" سحراً لا يمكن لغيرهم فهمه. هو بعكس الفنانين الجديين، لا يعاني إبداعياً في سبيل إيصال الجوهر السحري الذي يمتلكه للجمهور، ما يفعله لا يتطلب مهارة عالية، مجرد وقت فراغ ورغبة باللعب، لا معاناة فنيّة، ولا نضالا لأجل تغيير التاريخ، لكن هناك جمالية ما تتجلى باللعب والرعب والدهشة. المفاهيم التي تبنتها مؤسسات مفرطة في الجدّية، وحولتها لأساليب لترسيخ سلطة البابا والوطن والفنان، نافيةً أي محاولة للعب المجاني، غير المتقن الذي يخاطب الجميع.

دلالات

المساهمون