الأفكار الصامتة لأنتونيو لوكيتش: غموض والتباسات

الأفكار الصامتة لأنتونيو لوكيتش: غموض والتباسات

05 اغسطس 2019
"أفكاري صامتة": رحلات روح وعلاقات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
قبل أربعة أعوام، أخرج الأوكراني أنتونيو لوكيتش أول أفلامه، بعنوان "كانت تمطر في مانشستر" (روائي قصير، 2015)، عن الشاب أندريه، ذي الطول الفارع (أكثر من مترين)، الذي يُعاني مشاكل وصعاباً، ويواجه مواقف طريفة أيضًا في حياته اليومية، بسبب طوله. 

في الروائي الطويل الأول له، "أفكاري صامتة" (2019)، ارتكز لوكيتش على قصّةٍ، كتب السيناريو لها مع فاليريا كالشينكو، من دون الاعتماد على فيلمه القصير السابق، كأساس. في "أفكاري صامتة"، أضحت مسألة القامة المديدة ثانوية بعض الشيء، فالمخرج وكاتبة السيناريو توقّفا عندها لابتكار مفارقات طريفة في حياة بطل الفيلم، فقط. علمًا أنّ الأحداث تدور في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، والسيناريو يطرح قضايا عديدة، كالهجرة والتفكك الأسري والوحدة وغموض المستقبل والدين.

للفيلم بداية شديدة الغموض، تبدو واعدة، سياسيًا ودينيًا، لكنه مرّ عليهما بشكلٍ عابر رغم أهميتهما، إذ اكتفى لوكيتش بتلميح، أو بلقطات في مواقف محددة ومن زوايا معيّنة، لتمرير ما يرغب فيه، من دون مباشرة. قبل البداية، تظهر فقرة تقول إنّ الإمبراطورية العثمانيّة دمّرت، في ساعات قليلة عام 1526، جيش الملك لويس الثاني الهنغاري، ما أدّى إلى فقدان الإمبراطورية الهنغارية استقلالها قرنًا كاملاً. أضافت الفقرة أنّه أثناء فرار الملك من مصيره المظلم، غرق في مستنقع بشكلٍ تراجيدي.

توحي هذه المعلومات، بشكلٍ مربك، بأنّ الفيلم تاريخي، ومُصوّر بالأسود والأبيض. لكن، مع انتهاء الدقائق الـ10 الأولى، تحدث نقلة مربكة هي أيضًا، زمانيًا ومكانيًا وبصريًا. في البداية، يُقال بإيجاز إنّ هناك تاجرًا يجلس مع راهبين، محاولاً بيعهما صندوقًا صغيرًا، زاعمًا أن فيه أحد أسنان السيد المسيح، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنّ معجزات الصندوق لا تنتهي، وإلى أنّ خشيته من تحلّل السنّ مع فتح الصندوق تحول دون اطلاعه عليه. في النهاية، يُقنع أحدهما بلمس الصندوق بإصبعه، واعدًا إياه بأن معجزة ستحدث له خلال أسبوع، وبأنّه سيعود حينها. ومع تحقّق المعجزة، سيتعيّن عليهما شراء الصندوق.

قصّة سقوط الملك في المستنقع، والمقطع الخاص بالدين والدجل والإيمان بالمعجزات، يرتبطان لاحقًا بأحداث الفيلم. فاديم يسقط، قبيل نهاية الفيلم، في مستنقع طينيّ أثناء محاولته تسجيل أصوات طائر نادر. يُتّهم بالتجسس، فيتغيّر مصيره، ربما إلى الأسوأ. للدين دور في حياة الأفراد في المجتمع، خاصة لغاليا، والدة فاديم، رغم عدم تديّنهما الصريح. لهذا علاقة أكبر بالتقاليد والعادات الاجتماعية والموروث الثقافي في أوكرانيا، ما يُشير إلى أنّ المجتمع الأوكرانيّ لا يزال غارقًا فيها، ولم يتغيّر منذ عقود.

أحداث "أفكاري صامتة" ـ الفائز بالجائزة الخاصّة لمسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، وبتنويه خاص، وبجوائز مختلفة، أبرزها من "الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسكي)" في الدورة الـ10 (12 ـ 20 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان أوديسا السينمائي" في أوكرانيا ـ مستوحاة من حقائق ووقائع، ومشغولة ببساطة درامية وسلاسة حوار: فاديم روت (أندريه ليداغوفسكي) يبلغ 22 عامًا. مولعٌ بتسجيل الأصوات حوله. هذه ليست هواية، بل وسيلة لكسب العيش، وعمل يحبّه ويمارسه بكلّ شغف، رغم عدم فهم الناس لما يفعله، وعدم تقديره ومراعاته.

يتطوّر الأمر مع إعجاب مصمّم ألعاب إلكترونية بعمله، فيكلّفه بمهمة صعبة، تتمثّل بتسجيل أصوات الطيور والحيوانات والحشرات البرية، لتركيبها ودمجها بألعاب تنتجها شركة كبيرة في كندا. يتمثّل التحدّي في أن صاحب الشركة، ذا الأصل الأوكرانيّ، يرغب في الحصول على صوت أحد أنواع البط البرّي النادر، الموجود على حدود أوكرانيا مع رومانيا. البط قلق ودائم التنقّل والتحرّك بين الحدود. المهمة صعبة، لكن فاديم موعودٌ بأنّه لو أنجزها كما ينبغي، سيلتحق بالعمل في الفرع الرئيسي للشركة، براتب جيّد. تداعب فاديم فكرة السفر إلى كندا، حيث يُمكنه بدء حياة جديدة مغايرة، بعيدًا عن بلده.

يتصل فاديم بوالدته وجدّه، اللذين لم يلتقيان به منذ فترة طويلة. يخبرهما بأنّه سيزورهما في طريقه إلى منطقة البط البرّي. يصل إلى بلدته القديمة، فيكتشف أنّ الجدّ مريض، لكن المرض ليس خطرًا، ورغم هذا لا يستطيع مرافقته في رحلته. المشكلة الأكبر تكمن في تجدّد اللقاء بين فاديم ووالدته غاليا (إيرما فيتوفسكا ـ فانتسا)، المرأة الأربعينية الجميلة، التي تعمل سائقة سيارة أجرة. ورغم صلابة وتماسك يظهران عليها، وصرامتها مع ابنها (تنهره وتلطمه على خدّه وفمه كطفل صغير ينطق تفاهات)، تمرّ بأزمة منتصف العمر، وتعاني الوحدة وهجران الرجال لها، وخشية الموت وحيدة؛ وطبعًا، فراق الابن وجحوده تجاهها.

ترافق الأم ابنها في رحلته، فيتمّ التعرّف عليهما، وعلى طبيعة العلاقة بينهما، إنْ تكن هناك علاقة، فالصلة منقطعة بينهما، وسبب ذلك مُبهم. تدريجيًا، ومن دون إقحام أو افتعال، تتعمق العلاقة بين أمّ نزقة وشاب هادئ وصامت وخجول. تعلّقها به ليس حبّا فقط، بل بسبب شعور بالوحدة وبالخوف من المستقبل والموت.

تتظاهر قليلاً بأنها ستموت قريبًا، بسبب آلام في صدرها. تحكّمها به نابع من رغبتها في رؤيته متزوّجًا. يلين، ويُبدي تعاطفًا وحبّا وتفهّمًا تجاهها. لكن التخلّي عن حلم السفر والهجرة إلى كندا، والعيش كفنان حر مُستقل، وترك مهنته، والإقامة في أوكرانيا أو بجوار والدته، أفكار غير واردة نهائيًا عنده. رغم هذا كلّه، لا تُنبئ النهاية الغامضة للفيلم بشيء ما بخصوص سفره ومستقبله.

دلالات

المساهمون