"فتاة السوار" وأسئلة المراهقة: محاكمات وتساؤلات

"فتاة السوار" وأسئلة المراهقة: محاكمات وتساؤلات

26 اغسطس 2019
"فتاة السوار" في المحكمة: مَنْ يُحاكم مَنْ؟ (فيسبوك)
+ الخط -
في "فتاة السوار" (2019)، للفرنسي سيتفان دوموستييه، تُحاكَم ليز (ميليسا غيرز) بتّهمة قتل صديقتها المقرّبة فلورا. فعل القتل بحدّ ذاته غير ظاهر وغير مُصوّر، لكنّ صُورًا فوتوغرافية قليلة للغاية تُعرَض في المحكمة لتبيان معالم الجريمة على جسد الضحية. التّهمة قاسية، ويُفترض بها أنْ تدفع ليز إلى مواجهة صريحة مع ذاتها، إنْ تكن هي القاتلة، وإنْ لم تكن، فمقتل صديقة مقرّبة كفيل وحده بتبديل مسائل كثيرة، في النفس والروح والتصرّفات والنظرة إلى الأمور. 

لكن ليز، التي تبلغ 18 عامًا أثناء المحاكمة، أي بعد عامين اثنين على فعل القتل، تمتلك ملامح عصيّة على فهم المخبّأ في ذاتها وتفكيرها وانفعالاتها، رغم ميل واضح إلى حزنٍ أو أسى أو مرارة، أو ربما لا مبالاة، علمًا أنّها غير مَوقوفة، فهي تعيش مع أهلها، واضعةً سوارًا إلكترونيًا في قدمها طوال عامين سابِقَين على بدء المُحاكمة.

للملامح دورٌ في تقديم شخصيةِ شابّةٍ كَـ ليز، تعيش مرحلة انقلابات عادية بين نهاية مراهقتها وبداية شبابها. يقول ستيفان دوموستييه: "أُريد أنْ أضع المُشاهد أمام الغموض الذي تمثّله هذه المُراهِقة (ليز)". هذا وحده كافٍ لفهم المناخ العام، الذي يؤسِّس مسارات ويكشف نفوسًا ويفضح مخبّأ، ويبوح ـ وإنْ بشكلٍ غير مباشر ـ بانفعال أو حسّ أو توقٍ إلى شيء أو فعلٍ.

التباس الملامح أساسيّ، وإنْ يكن غير مقصود، فَـ ليز تُقيم في الحدّ الفاصل بين انهيار على مقتل صديقتها، ولامبالاة إزاء محاكمتها، ورغبة خفيّة في الخلاص من مأزقٍ كهذا. والمحاكمة، إذْ تُقدَّم بوصفها مشهدًا طبيعيًا في حالة كهذه، تتوغّل في مسام العلاقات المعطّلة أو المرتبكة، أو التي تعاني اضطرابًا وخللاً ما، داخل عائلة ليز، وتحديدًا بينها وبين والديها برونو (رشدي زيم) وسيلين (شيارا ماستروياني). وإذْ تنكشف، بهدوء، صدامات جيلين يختلف أحدهما عن الآخر، ويظهر ـ في الوقت نفسه ـ خللٌ بين الوالدين أيضًا، فإنّ السيناريو يوازن بين عالمَي المحاكمة والعائلة، بشكلٍ يُساهم في بلورة وقائع وتفاصيل متعلّقة بهما في آن واحد، لكن من دون أنْ تغلب محاكمةُ الوالدين، إنْ صحّ التعبير، على محاكمة ليز، ومن دون أنْ تتفرّد المحاكمة الثانية بالمشهد السينمائيّ برمّته.

ثقل المعطيات القانونية والكلام العلمي والتفاصيل الإنسانية الخفيّة، التي تظهر في كلام شهودٍ أحيانًا، لن تحول دون التنبّه إلى شخصيات تتصارع كلّ واحدة منها مع ذاتها وروحها وعقلها، بشكل أساسيّ. وثقل الارتباكات الحاصلة في العائلة الواحدة، خصوصًا مع تبيان حدّة المسافات القائمة بين الوالدين وليز، وربما بين برونو وسيلين أيضًا، لن يمنع متابعة دقيقة لما يجري داخل المحكمة، فبعض الكلام يتجاوز القتل والمعلومات والإثباتات وغيرها، لأنّه يمسّ نبض حياة شبابية أيضًا. والكلام عن خلافٍ قوي بين ليز وفلورا، سابقٍ لفعل القتل، شبيهٌ بما يحصل في الغالبية الساحقة من الجرائم، إذْ يعلن شهودٌ استماعهم إلى تهديدات بالقتل صادرة من طرفٍ ضد من سيُقتل لاحقًا، فيُصبح قائل التهديد متّهمًا. لكن، أي خوف ينتاب فلورا من ليز، كما ينقل عنها صديقها أمام المحكمة، وفلورا ـ عند تنظيمها حفلة في منزلها ليلة مقتلها ـ تدعو ليز إليها، وليز تغفو في سريرها أيضًا؟ أي خوف هذا، وشريط مُصوّر على هاتف خلوي يُظهر فرحًا كبيرًا بينهما في الحفلة؟ غير أنّ شاهدةً تعتبر تهديدًا كهذا غير نافع، فكثيرون يقولون عكس ما يفعلون: "بعضهم يعترف بأنّه يحبّ، مع أنّه لا يقصد الحبّ بحدّ ذاته، أو أنّه لا يُحبّ أحدًا".

مسائل كثيرة تتكشّف أثناء المحاكمة، وداخل العائلة، لكن بهدوء ومواربة أحيانًا. العلاقة بين ليز وفلورا غريبة للغاية، إذْ تنتقل من صداقة إلى ملامسات جسدية بين مراهقتين، ومن ارتباط طفولي إلى زمالة مدرسة وصراعات تحصل كثيرًا في أعمارٍ كهذه. شريط فيديو يُظهر مداعبات جسدية بين ليز وصديق فلورا، التي (فلورا) تبثّه على "إنترنت"، كفيلٌ بإشعال غضب ليز وبدء ارتباكٍ ما "ينتهي"، أو ربما يُفترض به أن ينتهي، في مشاركة ليز بالحفلة الأخيرة لفلورا.

هذا كلّه، رغم أهميته، لن يوضح شيئًا بخصوص الجريمة، والعلاقة الفعلية بين المتّهمة والضحية. وإذْ يبدو "فتاة السوار" غير معنيّ بكشف القاتل الحقيقي، فهو يحتال بتناوله علاقة ليز بفلورا، وهذا جزءٌ من جماليته الدرامية والفنية والسرديّة.

ينتمي "فتاة السوار" ـ المعروض للمرة الأولى دوليًا في الدورة الـ72 لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي"، المُقامة بين 7 و17 أغسطس/ آب 2019 ـ إلى عوالم سينمائية متداخلة فيما بينها، لكشف شيء من تفاصيل يومية لأناسٍ يُقيمون على حافة الهاوية، ويعاندون قدر المستطاع لعدم الوقوع فيها. فهو أولاً فيلم محكمة وقضاء وتحقيقات، وفيلم عائلي ليس بالمعنى المبسّط والمُضحك والكوميدي، وفيلم تشويق من دون عنف (ظاهر وواضح) ومطاردات، وفيلم شبابيّ فمحوره الأبرز شابّة تواجه انقلابات الحياة وحيدة، وإنْ تعترف أنّ والديها لم يخذلاها.

أما معرفة القاتل وكشف حقيقة الحدث داخل منزل فلورا، فغير مُهمَّين، إذْ يهتمّ "فتاة السوار" بالنَفْس الفردية، ومواجهتها أسئلة الحياة والموت والعلاقات والسلوك والانفعالات. كما أنّه مهتمّ بتحويل المحاكمة إلى متنفّس يبوح من دون تأكيد، ويقول مواربة ما يرغب في قوله لكنه يبتعد عن المُباشرة، فالمُباشرة "مقتلٌ" حقيقي لنص سينمائي كهذا.

المساهمون