الموسيقى الإلكترونية... لن تُغنّي العصافير وحدها بعد اليوم

الموسيقى الإلكترونية... لن تُغنّي العصافير وحدها بعد اليوم

25 اغسطس 2019
الحواسيب والهواتف المحمولة أصبحت تُغنّي اليوم (Getty)
+ الخط -
يمكن وصف الموسيقى الإلكترونية بأنها التأليف بأصواتٍ صُنعت بالكهرباء. منذ أن بدأ الإنسان إبداع الألحان، سواءً غناءً بالحنجرة، أو عزفاً بالضرب على طبل، أو النقر على وتر، أو النفخ في النحاس أو الخشب، كانت تصدُر عن تلك الآلات موجات صوتية تنتقل عبر الهواء، مُنسّقة على نحو مُعيَن من نغم وإيقاع، مشحونة بالإحساس ومحملة بالمشاعر والأفكار، كما وبالكلمات، في حالة الأغنية.

منتصف القرن العشرين، وبمُقتضى الصناعة العسكرية الحديثة إبان الحرب العالمية الثانية، أدّت الأبحاث المُسهبة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، إلى وثبة عالية في تقنيّات إحداث وبثّ الموجات الصوتية كهربائياً. مع انتهاء الحرب، عبرت ثمار تلك الكشوفات والاختراعات نحو فضاءات التعبير الجمالي، لتبدأ مع ذلك حقبة صوتية جديدة، غيّرت التجربة الموسيقية إبداعاً واستماعاً.

لم تعُد النغمة حاصل اهتزاز طبيعي، يُحدث موجة مُحددة تركب الهواء، وإنما ناتجٌ عن دارة إلكترونية، موصولة بالكهرباء. جاء الكومبيوتر في ما بعد، ليحوّل تلك الإشارة الإلكترونية إلى لغة رقمية تُبرمج وتُحفظ ضمن ذواكر، يجري تركيبها والتلاعب بها وفق إمكانيّات واحتمالات لا تعد ولا تُحصى. وُلد السنثسايزر، أي مُركِّب الأصوات، ثم المبرمجات التي بمقدورها التأليف والتسجيل والأداء.

اليوم، يكاد تطبيق موسيقي على هاتف محمول أن يتفوق على أعتى وأضخم البرامج الصوتية التي جُهّزت بها أحدث الاستوديوهات في منتصف الثمانينيّات من القرن الماضي. لم تعدْ الموسيقى لتُحفظ في أشرطة أو تُطبع على أسطوانات مديدة أو مضغوطة، وإنما تُحفظ كبيانات رقمية، تتدفّق عبر مَعين المنصّات على شبكة الإنترنت. اليوم، هو عصر دمقرطة الموسيقى في كلّ من المزاولة والمداولة.

في الماضي، أمضى الفنان عقوداً من الزمان في تعلّم وإتقان آلة موسيقية. لم يكن ليتسنّى للمؤلف أو المُلحّن أن يسمع موسيقاه وهو يُخطّها على الورق، إلا بصوت قيثارته أو عوده. اليوم، ومن غير ضرورة الإلمام بعلوم السماعيّات والنظريات الموسيقية، بمكن لطفل أو مراهق هاوٍ أن يُبرمج الأصوات على حاسوبه المحمول، وبكبسة زر، يُعيد الجهاز عزفها له افتراضيّاً بأداء فرقة موسيقية متكاملة.

اليوم، وبحَمْل الذكاء الاصطناعي على تعلّم عشرات الألوف من المدّونات الموسيقية لمشاهير الملحّنين عبر التاريخ، تُعالج الأنساق المختلفة لأنماط الكتابة الموسيقية، ينتج عنها لوغارتم يُحْسن استنباط سيرورة موسيقية معيّنة، ليُنجز مقطوعة موسيقية مُتكاملة من دون عاملٍ بشري. بقراءة الفكر والعاطفة، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يُبدع آنياً مؤلفاً موسيقيّاً خاصاً يعكس شخصية المُستمع.

تكاد الموسيقى بهذا، ألا تعود حكراً على الروح الإنسانية. لطالما كان سماع الألحان وقفاً على إدراك الإنسان. الطير لا يُغني، وإنما يُغرّد، بيد أن البشر هم من يسمع في تغريده شدواً وغناءً. إن الاستجابة الحسية والعاطفية والمُقاربة الجمالية للأصوات، سواء في الطبيعة أو في الحياة، صدفة أو صدوراً عن آلات نغمية وإيقاعية هي من اختصاص الإنسان. وكأن بالأمر لم يعد كذلك بعد الآن.

إنما الموسيقى الإلكترونية بقدر ما كانت وليدة سياقات تاريخية واجتماعية وسياسية سابقة، بقدر ما باتت موِّلدةٌ ومُحدِثة لسياقات أخرى لاحقة. في حين عبّرت الموسيقى الكلاسيكية عن ذائقة وأسلوب حياة الطبقة الاجتماعية المُحافظة في أوروبا ما بعد الحربين الأولى والثانية في النصف الثاني من القرن العشرين، عكست الموسيقى الإلكترونية الصاخبة الروح الثورية للأجيال الصاعدة.

ردّدت واقعاً اقتصادياً أيضاً. في فترة الثمانينيات، أدّت سياسات تحرير رأس المال وتحريكه عبر وخارج العالم الغربي إلى موجات ركود حادة ضربت مدنا رئيسية في أوروبا وأميركا الشمالية. في تلك الأجواء، وفّرت الموسيقى الإلكترونية، للسهولة النسبية في إتقانها واقتنائها، فضاءً تعبيرياً للشباب الحالم والمتأزم. تأسست بموجب البيئة الجديدة أصناف موجات موسيقى الرقص المختلفة.

صارت الأقبية المُرتجّة على وقع تدوير الأسطوانات المستعملة وأنظمة تكبير الصوت أشبه بمعبد الجيل الجديد. في مدينة شيكاغو الأميركية، ولدت موسيقى الهاوس ذات النبض الإيقاعي الرباعي المُولّد بوساطة آلة الطبل المُبرمج إلكترونياً. في نيويورك المُثقلة اقتصادياً، انحرفت موسيقى الديسكو الراقصة عن كونها رفاه السهر والسمر والحياة الليلية، لتصبح وقود ثورة تحرر عرقية وجنسية.

ديترويد الأميركية، ذات المزاج الصناعي الثقيل، خلّفت هجرة معامل السيارات من المدينة مُنشآت فسيحة بأجور بخسة رخيصة، اجتاحتها الشبيبة وافترشت أراضيها معدّات التكبير ومنصّات الدي جيه. بإلهام من النوستالجيا الصناعية، ظهر جنس موسيقى التكنو. وهو موسيقى إلكترونية راقصة مُرتكزة على إيقاع رباعي مُتكرر، تُميّزها المؤثرات المستوحاة من ضوضاء المُعدّات والآلات.

بالتوازي وفي القارة الأوروبية، بريطانيا بقيادة حزب المُحافظين ورئاسة تاتشر للحكومة، وتحت وزر ركود حاد ناتج عن سياسات لبرلة الاقتصاد؛ وجد الشباب المُحتقن في صخب التكنو والهاوس، صدىً لواقع معيش وهوية صوتية لحداثة غايتها تحصيل اللذة باستهلاك الحياة، تبلور جنس الريف الموسيقي، وهو طقس رقص ليلي حتى الصباح، يُحركه الدي جيه، يصل بالجموع إلى حدود الإعياء.

برلين، بعد أن انهار بها الجدار الذي فصل معسكري الحرب الباردة، وتحت العبء الاقتصادي والاجتماعي لمسعى الوحدة بين شطر اشتراكي وآخر رأسمالي. الالتحام بين شباب الشرق الذي عانى عقوداً من القمع السياسي والثقافي وشباب الغرب المُعبأ ضدّ الأمركة وثقافة الاستهلاك، أطلق شرارة التكنو في برلين، ليغدو استعراض الحب على إيقاع الدي جيه في شوارعها تظاهرة سنوية.

الموسيقى الإلكترونية إنما هي هنا لتبقى. إنها استكمال مسار تطوّر لم ينقطع ولم يتوقف عن فتح آفاق موسيقية جديدة. البيئة الصوتية المصاحبة لكل حقبة هي المادة الخام والملهم الأول والأساس لألوان الإبداع الموسيقي. ليس البحر والساقية ما يُحيط بالأذن المعاصرة، وإنما القطار والسيارة. ليست العصافير وحدها التي تغنّي اليوم، وإنما الحواسيب أيضاً والهواتف المحمولة والطائرات المُسيّرة.

حُسن المُعالجة والتأليف بين الأصوات يظلّ هو المفتاح لتفرّد موسيقى دون غيرها. النسق الجمالي الخاص والقوة التعبيرية الفائقة ما يجعل مقطوعة تُثير الدهشة والعاطفة. الأصوات، سواءً كانت حية أو موّلدة بأجهزة وحواسيب، هي محض مواد وعناصر، تقع على من يمتلكها مهمة ومسؤولية تحويلها إلى عمل فنّي مؤثر فكرياً وجمالياً. يبقى المؤلَف من المؤلِف، والموسيقى الإلكترونية ما هي إلا زاد يَزيده ويُثريه.

المساهمون