"لارا" ليان أولي غيرشتر: غيرة أم

"لارا" ليان أولي غيرشتر: غيرة أم

23 اغسطس 2019
كورينّا حرفوش مؤدّية "لارا": بهاء التمثيل (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
فاز "لارا"، للألماني يان أولي غيرشتر (1978)، بجائزتي لجنة التحكيم الخاصة وأفضل ممثلة لكورينّا حرفوش، في الدورة 54 (28 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". كما فاز بجائزة "الاتّحاد الدولي للنقّاد"، في الدورة 37 (27 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2019) لـ"مهرجان ميونيخ السينمائي الدولي". 

هذه جوائز يستحقّها تمامًا، وإنْ ينقصها جائزة أخرى لكاتب السيناريو، السلوفيني بلاش كوتين، الذي أبدع في تأليف سيناريو مُكثَّف وعميق ومُركّب، وفي رسم الشخصية الرئيسية بشكلٍ متقن ودقيق ومقنع، والشخصيات الثانوية أيضًا. السيناريو ذكيٌّ بتكثيف أحداثه في يوم واحد فقط.
هذه الدراما النفسية، المتماسكة والقوية، تتناول موضوع النَفس البشرية، وتركيباتها وتعقيداتها كلّها، التي (النَفس) يُمكن قراءتها على مستويين: الأنانية، والعلاقة المركّبة بين الأم وابنها. علمًا أنّ السيناريو يبتعد، بذكاءٍ لافت للانتباه، عن العُقدة الأوديبية المعروفة. ورغم أنّه يقوم أساسًا على هذه العلاقة تحديدًا، إلاّ أنّ الفيلم لم يتطرّق نهائيًا إلى مسألة تعلّق الابن بوالدته، أو العكس.

محور العلاقة الأوديبية، عامة، الحبّ، أو الغيرة الناجمة عن العواطف. بينما هي معكوسة في "لارا"، بل مقلوبة رأسًا على عقب. فبين الأم وابنها، هناك علاقة غيرة وحسد وحقد، وربما كراهية، من الأم إزاء ابنها. لكن، يُمكن القول أيضًا إنّ الأمّ مستاءة من ابنها. لكن، بصرف النظر عن ماهية التوصيفات، فإنّ الجانب الشرير أو غير السوي يُمكن ردّه بسهولة إلى النفس البشرية وتعقيداتها، خاصة عندما تكون هذه النفس غير طبيعية، أي أنّها لا تعرف الإيثار، وتتّسم بالفردانية المطلقة وحبّ الذات والنرجسية.

لارا (كورينّا حرفوش) أمّ قوية وغيورة وأنانية وحاقدة إلى درجة سوداوية. تكافح لمنع نجاح ابنها الوحيد فيكتور (توم شيلينغ) حيث فشلت هي في تحقيقه. تبلغ 60 عامًا. تتقاعد من عملها. لم تعد لديها حياة أمامها، على ما يبدو. ابنها مُقيم مع والدتها، بعيدًا عنها وهربًا منها. زوجها السابق تزوّج بأخرى. هناك طبقات عديدة يُمكن، على أساسها، تفسير شخصيتها، أو الاقتراب منها. ورغم طغيان الجانب السيئ لشخصيتها المركبة، أحيانًا كثيرة، هناك ما يُثير الشفقة على حالها وعليها، خصوصًا عندما تحاول أن تبدو على غير ما هي عليه، أو تتمرّد على شخصيتها، ولو للحظات، لكن تركيبتها تحول دون ذلك.
تصرّفاتها تمتلك قدرًا من النبل، أو على الأقلّ تنبثق من الحبّ: شراء التذاكر كلّها للأمسية الموسيقية لابنها، الذي سيعزف فيها، للمرّة الأولى، أمام الجمهور، كونشيرتو للبيانو من تأليفه. توزيعها التذاكر على من تقابلهم من معارفها. مرورها على زميلاتها السابقات في المكتب، لتوزّع عليهم التذاكر أيضًا. ذهابها إلى معهد الموسيقى، حيث يُدرِّس فيكتور الموسيقى للأطفال. محاولتها التقرّب من صديقة ابنها، ثم من والدتها، التي تزورها للقاء ابنها قبل العرض، بهدف تشجيعه ودعمه.

هذه التصرّفات كلّها، رغم نبلها ودافع الحبّ، تنقلب إلى النقيض، فجأة: زيارتها مكتبها وزميلاتها السابقات تتحوّل إلى مباراة كلامية حادّة ومُهينة. في معهد الموسيقى، تلتقي صبيًا يتعلّم البيانو، فتجعله يعزف، ثم فجأة تُوبّخه وتُعنّفه بقسوة، وتضربه على أصابعه، قبل أنْ تتركه قائلةً: "يا لخيبة أمل أهلك فيك". مع صديقة ابنها، التي تتعلّم العزف على الكمان، تشكّ في أنها تكذب عليها بشأن علاقتها مع ابنها، فتكسر لها قوس الكمان خلسة. زيارتها إلى والدتها تتحوّل إلى مشاجرة حامية، تدفعها إلى فقدان أعصابها وصفع والدتها على خدّها، في مشهد صادم. تقرأ "النوتة" الموسيقية التي ألّفها فيكتور، فتُعجب بها كثيرًا، لكنّها، عند لقائها به لأول مرّة بعد تهرّبه الطويل منها، تُحبِطه، وتتّهمه بعدم الأصالة، وانتفاء التجديد.

رغم ذلك، يمكن تأويل ما سبق بشكلٍ مُختلف. فللشخصيات الثانوية ـ التي تتعامل معها لارا، وتساهم في تفجير كوامنها، وترسم وجودها تدريجيًا على النحو الذي ظهرت فيه ـ دور مباشر وغير مباشر في شخصية لارا، وفي طريقة تعاملها مع الآخرين. صحيح أن اضطراباتها النفسية واضحة. لكن، ربما تفاقمت هذه الاضطرابات بسبب تربية والديها، أو والدتها تحديدًا؛ أو بسبب مُعاملة زوجها السابق لها، الذي بذل جهدًا كبيرًا لمنع وصولها إلى ابنهما والتحدث معه؛ أو بسبب جرحها القديم، النازف لغاية الآن، والمتأتي من قول مدرّس البيانو لها بأنّها غير ماهرة وغير موهوبة أبدًا. هذا سينفيه لاحقًا، عندما التقته وذكَّرته بنفسها، بإخباره إياها أنّه يقول هذا الكلام دائمًا لتحفيز الطلاب، ولاختبار مثابرتهم وجَلدهم.

ببراعة، لا يُفصح السيناريو عن أسباب بعينها، مكتفيًا بتقديم الشخصية كما هي، ومن دون معرفة الكثير عن ماضيها. طبعًا، لا تتكوّن الشخصية من لا شيء. لذا، يسهل وصم لارا بكثيرٍ مما هو فجّ ومقيت. لكن، عند تأمّل شخصيتها لاحقًا، بتركيبتها وتعقيداتها وعصبيّتها ونزقها، تظهر كضحية. على الأقل، ضحية لنفسها وغرائزها وذاتيّتها، ولتعقيدات النفس البشرية، التي تجعلها، مثلاً، فخورة بابنها، مع أنها تشعر، في الوقت نفسه، بالغيرة والحسد والحسرة على نفسها وموهبتها.

لارا ضحية نفسها، وضحية مقرّبين منها. وربما ضحية دائرة أوسع من المجتمع. وأيضًا ضحية تربية وسلوكيات لم تقوَّم ولم تُعالَج. 
لارا نموذج لحرفية الاشتغال على شخصية بأدقّ تفاصيلها. بدءًا من الملابس ودرجاتها اللونية، والتدخين والعصبية والبرودة، ومحاولة الانتحار. وأيضًا لحرفية اختيار الممثلة الرئيسية كورينّا حرفوش، بالتقاسيم الحادّة لوجهها، وجدّيتها وصرامتها، وبالمواقف المدروسة، والكادرات المعتنى بزواياها وإضاءاتها، لإبراز وتعميق الشخصية وحالاتها، طول الفيلم. 

لذا، فإنّ سيناريو "لارا" جيّد للغاية، والتمثيل فيه رائع، كروعة التحكّم بالنفس، وتعبيرات الوجه والعينين لحرفوش. لكن، ليس هذا فقط، فهناك اشتغال رفيع المستوى لمُخرج مرهف، يعرف كيف يُحرّك شخصياته، ويضبط إيقاع فيلمه، ويُخلِّصه من الزوائد، مُحافظًا، في الوقت نفسه، على الإثارة والتشويق والغموض، وإنْ يكن الفيلم صعبًا ومركّبًا، والشخصية كريهة إلى درجة لا تُحتمل، ومع هذا، فهي حاضرة على الشاشة في المَشاهد كلّها تقريبًا.

المساهمون