مئة عام من الباوهاوس

مئة عام من الباوهاوس

19 اغسطس 2019
تأسست مدرسة الباوهاوس في فترة الإنتاج الصناعي الأوروبي (Getty)
+ الخط -
يحتفل العالم هذا العام، وخصوصاً العاصمة الألمانية برلين، بمرور مئة عام على افتتاح مدرسة الباوهاوس التي اجتاحت مبادئها القرن العشرين، وغيرت ملامح العمارة وتخطيط المدن وصناعة الأثاث والنظرية الفنية. وجعلت العالم حولنا ذا شكل منتظم ومضبوط ووظيفي، أغوى الكثيرين ممن سعوا في تصاميمهم إلى دمج الملامح الفنيّة مع المهام الوظيفيّة. والأهم، "حل المشكلات" اليومية، ليكون المنتج النهائي ديمقراطياً، على صلة مع المجتمع واحتياجاته، سواء كان كرسياً أو بناء. 

التيار الذي وصفه النازيون بأنه "منحط"، وقاموا بإغلاق مدرسته الأولى عام 1933، يصفه مؤسس المدرسة، والتر غروبيس، في "مانيفستو" الباوهاوس بقوله: "تسعى الباوهاوس إلى إعادة توحيد الفنون والمهن اليدويّة كالنحت والرسم والفنون التطبيقيّة، بوصفها عناصر العمارة الجديدة". ويضيف: "سوياً لنتخيل ونخلق أبنية جديدة للمستقبل، أبنية ستجمع العمارة والنحت والرسم في كتلة واحدة، لتصعد يوماً ما نحو الجنة من أيدي ملايين العمال. هي أِشبه برمز كريستالي للإيمان الجديد".

تأتي هذه الدعوة في الفترة التي شهدت الإنتاج الصناعيّ الهائل، ما شكّل تهديداً للذوق الفنيّ، والذي بدأت خصائصه تتلاشى من الحياة اليوميّة، فأتت الباوهاوس كوسيلة للحفاظ على "روح الفن"، وجعله ديمقراطياً في متناول الجميع. حاولت الباوهاوس الإجابة عن سؤال ما هو المفيد، عبر اختزال عناصر البذح والغنى الفاحش والتركيز على المفاهيم الفنيّة في ذات الوقت. ونرى أثر ذلك في الأثاث، كما في "كرسي النادي- Model B3" الشهير الذي صممه ويسلي بروير، والذي استفاد من القضبان الحديدية المخصصة للدراجات لصناعة الكرسي، إذْ يبدو كأنه يطفو، ويصفه بقوله: "هو أكثر أعمالي راديكالية.. الأقلّ فنيّة، الأكثر عقلانيّة، الأقل حميميّة، والأكثر ميكانيكيّة". والأهم، أنَّه الكرسي الأول من نوعه الذي يحوي حديداً منحنياً. كما أن الفكرة من ورائه ما زالت قائمة، مع التركيز أكثر على الراحة. وهذا ما نراه لاحقاً في كرسيّ كوربوزية الشهير "LC 3"، الذي ركز على الراحة والحجم على حساب الضآلة وغياب الكتل المصمتة.

عمل الكثير من مصممي الباوهاوس على قطع الأثاث الصغيرة، سواء كانت تزيينيّة أو ذات وظائف محددة. لكن أشهر هذه القطع هي طاولة الشطرنج التي أنجزها جوزيف هارتويج Josef Hartwig، والتي تشتهر بيادقها بالتصميم المفاهيمي، لا ذاك التقليديّ الذي يحيل إلى الاسم (قلعة، حصان، ملك..). إذ اعتمد تصميماً يتطابق مع أسلوب حركة كل بيدق، فهي أشبه بكتل مقطعة بدقّة، ويمكن ترتيبها في كتلة واحدة حين يراد توضيبها.

أعادت الباوهاوس على يد كل من، السويسري بول كلي والروسي ويسلي كاندسي، النظر في نظام الألوان وتوظيفها في العمارة والفن. إذ قام كلي بتطوير نظرية الألوان عبر دروسه ومقالاته، فبرأيه: "الفنّ لا يعيد إنتاج المرئي، بل يجعله مرئياً". وعمد على توزيع الألوان الرئيسية والثانويّة على أساس الحركة، خالقاً أسلوبَ تفاعلٍ جديد بين الألوان التي يختلف ترتيبها ضمن كل بنيّة. كما قام كاندسيكي بالتأسيس لفن مفاهيمي جديد قائم على علاقة الخطوط مع شكل العالم و تصميمه.

نرى الأثر المعماريّ الذي تركته الباوهاوس في أكبر العواصم العالميّة، كما في الأبنية الزجاجية الضخمة التي تكشف ما بداخلها، وعادة تكون مخصصة للمكاتب. كذلك نتلمس هذا الأثر في الأبنية السكنيّة الطويلة المتشابهة، التي تتبنى الدولة بناءها عادة، والمصممة بصورة قياسيّة، فهي متطابقة من الداخل مع شرفات صغيرة خارجيّة، تعتبر عادة المساحات الأمثل للحياة والاستقرار، دون أي هدر في الفضاء الداخليّ. في المنطقة العربيّة نرى هذه التصميمات في المدارس العامة المنشأة في الستينات والسبعينات وفي الأبنية السكنية الحكوميّة. لكن الإنجاز الأكبر للباوهاوس هو سعيهم لتوحيد مفهوم "القياسي"، وخلق معيار موحد يضبط شكل العالم، والذي نراه في كتاب "نوفيرت" الذي ما زال يطبع إلى الآن، وسعى فيه إيرنست نوفيرت مساعد غروبيس، إلى ضبط قياسات العالم وكل ما فيه، من جسد الإنسان إلى الطاولات والملاعق حتى الأبنية والأبواب والنوافذ، فالباوهاوس وروادها سعوا لتصميم شامل للعالم، وظيفي، وذو لمسة فنيّة.

دلالات

المساهمون