وداعاً كارلوفي فاري... لحظات أخيرة وسهر دائم

وداعاً كارلوفي فاري... لحظات أخيرة وسهر دائم ومثابرة على مُشاهدة الأفلام

09 يوليو 2019
حشود تنتظر أمام الصالة الكبرى (العربي الجديد)
+ الخط -
يُثير المشهد بعض حماسة تحثّ على متابعةٍ وكتابة. اليوم الأخير للدورة 54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" يمتلك خصوصيّة، كعادة "اليوم الأخير" في الدورات كلّها، وغالبًا في المهرجانات السينمائية الدولية كافة. منصّات عديدة تُفكَّك. ملصقات الأفلام تُزال عن الجدران. "مكتبة الفيديو" تُغلق أبوابها، كي يُخلي المتطوّعون الغرفة من الشاشات التلفزيونية، والكراسي والطاولات. محلات بيع الهدايا، المتعلّقة بالمهرجان، تُفرِغ ما فيها من بقايا المنتجات غير المباعة. العدد الأخير من النشرة اليومية الخاصّة بالمهرجان، التي تُصدرها صحيفة "الحقّ" باللغتين التشيكية والإنكليزية، يصدر في اليوم الأخير هذا. المطبوعات المختلفة، التي توزَّع مجانًا طوال أيام الدورة، تختفي من منصّاتها الخاصّة، المنتشرة في أنحاء مختلفة في الفندق. 

لكن مكاتب مخصّصة بشؤون الضيوف والمدعوين تستمرّ في عملها. مراكز بيع تذاكر الدخول إلى الصالات تتوقّف عن العمل نهائيًا قبل ساعاتٍ على حفلة الختام. الصالات الخمس غير السينمائية، التابعة لـ"فندق ترمال" (المقرّ العام للمهرجان)، تنفض عنها ضغط العروض اليومية، بينما الصالة الكبرى (نحو 1200 مقعد) تستمرّ في عرض الأفلام في مناسباتٍ أخرى. شبابٌ يبحثون عن أفلامٍ يريدون مشاهدتها في اليوم الأخير نفسه، أو في اليوم التالي، فيقفوا صفوفًا، وإنْ بأعدادٍ أقلّ من أعداد الأيام السابقة، لشراء بطاقات الدخول إلى هذه الصالة أو تلك، خارج الفندق غالبًا. أناسٌ يقفون ساعاتٍ قليلة أمام المدخل الرئيسي للصالة الكبرى للفندق، منتظرين خروج نجومٍ بعد حفلة الختام؛ وآخرون غير مكترثين البتّة بهذا، فأماكن السهر المحيطة بالفندق عامرةٌ بموسيقى وأنخابٍ وطالبي سهرٍ ومُتَع، علمًا أنّ السهرات تبدأ باكرًا، فالشمس تغيب كلّيًا عند الـ9،30 مساء تقريبًا. ساهرون، ينتمون إلى فئات عمرية مختلفة، يفترشون مساحات خضراء، أو يجلسون على حافة النهر العابر أمام الفندق، لتمضية وقتٍ مع أصدقاء ومعارف وأحبّة.

بعد وقتٍ قليل على إعلان النتائج النهائية في حفلة الختام، التي يحضرها عادة ضيوف ومدعوون تفرض عليهم إدارة المهرجان ارتداء زيّ رسميّ؛ وعلى بُعد أمتارٍ قليلة من "فندق ترمال"، يلتقي نحو 200 شخص في مقهى تحيطه مساحة خضراء، يجلسون أرضًا أو على سلّم الطابق الأول للمقهى، أو يقفون بين أشجار عديدة، لمُشاهدة "دييغو مارادونا"، الوثائقيّ الجديد للبريطاني آسيف كاباديا، المعروض سابقًا في برنامج "آفاق". ضيوف المهرجان يعجزون عن مشاهدته في ذاك العرض المجاني، فهذه نُسخة مترجمة إلى اللغة التشيكية فقط، وحواراته باللغتين الإسبانية والإيطالية غالبًا. لكن ضيوفًا ومدعوين يعرفون الفيلم، ويتفاعلون معه، تمامًا كتلك اللحظات الانفعالية الحسّاسة، التي يظهر فيها مارادونا جالسًا في استديو تلفزيوني، دامع العينين، وفي الحلق غصّة، والصمت طاغٍ لثوانٍ تبدو كأنّها دهر.

لمارادونا مريدون في كارلوفي فاري، رغم أنّ تشيكيين عديدين غير مهتمّين ببطولة كأس العام لكرة القدم، في دورتين متتاليتين، نُظّمتا عامَي 2014 و2018، بالتزامن مع دورتين مختلفتين لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائيّ الدولي". قبل ساعات قليلة على العرض الأول للوثائقي الجديد هذا، المفتوح أمام الجمهور، منتصف الدورة 54 للمهرجان، يتجوّل محبّو مارادونا في أروقة الفندق، كما في مقاهيه ومحيطه، وهم يرتدون قمصانًا هي نسخ طبق الأصل عن تلك الخاصّة به، ورافعين علم الأرجنتين وهم يصرخون باسم من يعشقون. الحشد كبيرٌ في صالات عروضه السابقة على عرض الليلة الأخيرة، ذلك أنّ كثيرين يريدون معرفة المزيد عن معبودهم.

الفيلم نتاجُ توليفٍ سينمائي بديع لتسجيلات مختلفة، تختزل 500 ساعة من الأرشيف المُصوَّر. تلك الليلة، بعد إعلان النتائج النهائية للمسابقات الـ3، "الرسمية" و"شرق الغرب" و"الأفلام الوثائقية"، ينصرف نحو 200 شخص إلى عالمٍ مختلف، يبحثون فيه ربما عن تفاصيل تكشف جديدًا، أو تؤكّد مَعروفًا، أو تُلبّي رغبة في اطّلاع ومعرفة.

صخب الأيام الـ9 يندثر شيئًا فشيئًا، في الساعات الأخيرة. مع هذا، فإنّ الحياة الليلية تحافظ على حيويتها. المدينة هادئة في اليوم التالي لحفلة الختام. حرارة الطقس تنخفض ثم ترتفع خلال تلك الأيام، وغيوم رمادية حاضرة في السماء في اليوم التالي لحفلة الختام. أما حرارة الأفلام ومواضيعها الساخنة، فستفرض نفسها طويلاً على متابعين ومُهتمّين. طبعًا، تصعب معرفة ما يُقال باللغة التشيكية بين أناسٍ يخرجون من الصالات، لكن الإنكليزية، التي يتحدّث بها عديدون منهم، تكشف شيئًا من حماسةِ مُشاهدة، ومتعةِ متابعة، ورغبةٍ في فهم المزيد من أحوال العالم عبر السينما. قسوة مواضيع الأفلام، وعنف البيئات الاجتماعية، وحِدّة العلاقات القائمة بين الناس، أمور أساسية في برمجةٍ تخاطب راهنًا أوروبيًا، كمن يقول إنّ الانهيارات خطرة، وإنّ الخلل مؤذٍ، وإنّ الحاجة مُلحّة إلى ما هو أكثر من تنبيهٍ. فالسينما تكشف وتُعرّي، وتشير إلى اهتراءٍ أو فراغ أو عتمة، لكنها غير معنيّة بأي شيء آخر.
هذا يحدث في كارلوفي فاري، المدينة والمهرجان. اليوم التالي لحفلة الختام يتحوّل إلى وداعٍ، رغم أنّ ضيوفًا ومدعوين يغادرون قبل أيام على موعد تلك الحفلة. وداع يحمل معه مُتعًا بصرية، رغم عنف الحياة والاجتماع والسلوك، الذي تصنع منه السينما جماليات غير منسية.

المساهمون