بوريس أكوبوف يرصد تحوّلات روسيا سينمائيًا

بوريس أكوبوف يرصد تحوّلات روسيا سينمائيًا

26 يوليو 2019
"الثور": فضح ارتباكات روسيا في تسعينياتها (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في مسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائيّ الدوليّ"، فاز "الثور"، الروائي الطويل الأول للروسي بوريس أكوبوف (1985)، بـ"الجائزة الكبرى"، وبـ15 ألف دولار أميركي (بالتساوي بينه وبين الإنتاج). 

ينتمي "الثور" إلى أفلام العصابات والجريمة والعنف. أحداثه مُستقاة من قصّة حقيقية، جرت وقائعها في تسعينيات القرن الـ20، على أطراف موسكو. اختيار طاقم جيّد للفيلم، ومحاولة محاكاة أجواء التسعينيات تلك، موفّقان إلى حدّ بعيد. إجمالاً، يصعب القول إنّ الفيلم لمخرجٍ شاب يقدّم أول عمل له. مع ذلك، وربما بسبب الاستناد إلى وقائع حقيقية، والاكتفاء بسردها، لم يكن السيناريو متينًا بشكلٍ كافٍ، كالعناصر الأخرى.

سيناريو أكوبوف نفسه جيّد ومحبوك. الحوار مصاغ بحرفية. لكن الاكتفاء بسرد مجريات الأحداث، والابتعاد عن تعميق الشخصيات، لا سيما الرئيسية، لم يُضيفا كثيرًا. ليس هناك تفاعل كبير، إيجابي أو سلبي، مع الشخصيات، جرّاء عدم تعميق بعضها، أو التأخّر في تقديم بعضها الآخر إلى ما بعد الثلث الأول من بداية الأحداث، المفروضة على أكوبوف، المنساق إلى إيقاعها المتلاحق والسريع والمشوّق. إلى كتابته السيناريو، ألّف المخرجُ الموسيقى، المُزعجة وغير الموفّقة في أماكن كثيرة. لكن، على نقيض الهنات البسيطة في السيناريو والموسيقى، كان المونتاج (للمخرج أيضًا) قويّا ومترابطا. في النهاية، يُحسَب لبوريس أكوبوف أنّه لم يصنع فيلم إثارة أو جريمة مُستهلَكا أو مبتذلا، بل هناك تسلية وتشويق وعمق.

"الثور" مُحمّل بتلميحات وإسقاطات صريحة وكثيرة، ومباشرة أحيانًا، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ضد روسيا والمجتمع الروسي، المُصابين بتفكّك وانهيار تامّين، عشية دخول روسيا ومجتمعها في عهد جديد، بعد أعوام على تطبيق سياسة الـ"بيريسترويكا" الكارثية. فمن ناحية، هناك الحرس الشيوعي القديم، المنسحب تدريجيًا، أو الذي يُغيّر جلده تماشيًا مع المستجدات. ومن جهة أخرى، هناك الأقطاب الجدد، الرأسماليون الذين يحتلّون الحيّز الفارغ، فيستلمون زمام الأمور، مُكشّرين عن أنيابهم بشراسة. أما الشرطة، فتتفرّج، بل تلعب مع الأقوى والأكثر تسلّطًا وتحقيقًا للاستفادة.
حوارات عديدة، تبدو عادية للغاية، تتناول الانطلاق والحرية والديمقراطية والهروب من الماضي وإرثه. هناك توق، لا سيما لدى الشباب، إلى الهجرة، هربًا من هذا المستنقع، إلى الغرب تحديدًا. الفيلم يرصد تخلّي الشباب عن الأخلاق الموروثة، والتمرّد على ثقل الأسرة، والثورة على كلّ ما له علاقة بالماضي. التباين بين الماضي والحاضر، في فيلم يغلب عليه الشباب في مطلع عشرينياتهم، يبرز جليًا. الأخطر، أن هؤلاء الشباب ضائعون في خضمّ هذا التباين، فهم غير عارفين بعد إلى أيّ عالم ينتمون، لكنهم سعداء بالحرية والتحرّر والانطلاق، وبكلمة "الديمقراطية".

اختتام الفيلم بلقطات أرشيفية لبوريس يلتسين عملٌ ذكي للغاية. تظهر شخصيات أثناء مشاهدتها شاشات التلفزيون، التي تعرض لقطات يلتسين مُهنّئًا الشعب الروسي بمناسبة رأس السنة الميلادية، مطلع الألفية الجديدة. فجأة، يُعلن تنازله عن منصبه ومسؤولياته ومهامه، قائلاً: "كونوا سعداء. فأنتم حقّقتم السعادة والهدوء". هذه لقطة ساخرة بالتأكيد، خاصة عند مقارنتها بالمعروض قبلها. لقطة تؤكّد أن البلد انتقل إلى مصير آخر، ومع انتقاله هذا، ووفقًا للفيلم، يدفع الجميعُ الثمنَ.

تبدأ أحداث "الثور" عام 1997، وتنتهي مع بداية الألفية الثالثة، عبر قصّة أنطون بيكوف غيناديفيتش (يوري بوريسوف)، الملقَّب بالثور. شاب في مطلع العشرينيات من عمره، يظهر لاحقًا أنّه مصروفٌ من الجيش، وممنوع من ممارسة الرياضة. ترك الدراسة، وحُرم من التدخين وشرب الكحول، بسبب تضخّم عضلة قلبه. يحاول أنّ يجنّب والدته سفيتا (سفيتلانا فيكتوروفنا) وشقيقيه الصغيرين ميشا (إيغور كينزميتوف) وأنيا (أفينا كوندرشوفا) حالة الضياع والتشرد، والمصير المجهول الذي ينتظره. يعدهم بالحفاظ على الأسرة قدر الإمكان، وبألّا يُصيبهم أي سوء. لكنّه يقود جانحين للقيام بمشاغبات واحتكاكات ومناوشات في أحياء ومناطق مجاورة، لتحقيق بعض المكاسب. سريعًا، يتطوّر الأمر، ويستخدم السلاح. ذات يوم، يُعتَقل ويُسجن مُجدّدًا. 
إثر اتصال هاتفي يُجريه قائد مافياوي في موسكو مع أحد المسؤولين، يخرج أنطون مُعزّزًا من سجنه، فيعود إلى حياته الطبيعية. لكن الأمور تتعقّد، إذْ يطلب منه المافياوي خدمة، تتسبّب في "توّرطه" وعصابته وأسرته في مسائل غير متوقّعة. 

مصير أنطون وأسرته غير مختلف كثيرًا عن مصير الشخصية الأخرى الرئيسية، التي ظهرت بعد الثلث الأول: تانيا (ستاسيا ميلوسلافسكايا). فتاة تعمل في صالون تجميل، يحبّها شقيقه، لكنها تسخر منه ومن حبّه. تبحث تانيا عن أوروبيّ أو أميركيّ ينقذها، بإرسال تأشيرة سفر لها، كي تبدأ حياة جديدة خارج بلدها. تزداد حيرة تانيا، التي تكشف عن حبّها لأنطون، عندما تعلم أنّه يحبّها. يتعقّد الأمر أكثر، بعد حصولها على تأشيرة انتظرتها أعوامًا، ليس لأنها تحبّ أنطون، بل بسبب الحيرة والخوف والتردّد، إزاء مغادرة واقع معلوم ترفضه، إلى آخر مجهول تتوق إليه.

دلالات

المساهمون