3 أعوام على رحيل كيارستمي: حياة وسينما

3 أعوام على رحيل عباس كيارستمي: حياة وسينما

19 يوليو 2019
عباس كيارستمي: "كلّ شيء في أفلامي مخلص للواقع" (فيسبوك)
+ الخط -
في 4 يوليو/ تموز 2019، حلّت الذكرى الـ3 لرحيل عباس كيارستمي (76 عامًا). رحيل أفجع "سينفيليي" العالم، رغم أن الجميع يعلمون أنّه يُصارع المرض منذ وقت طويل. 3 أعوام لم تفلح في ردم الهوّة التي خلّفها رحيله، لتفرّد أسلوبه وندرة طينته، إيرانيًا ودوليًا، بمزجه التفكير الفلسفي بمسحة تجريدية، مستمدّة من التقاليد الفارسية العريقة. بهذا، ابتكر أسلوبًا جديدًا، بقصصٍ تبدو بسيطة ظاهريًا، لكن جوهرها مليء بتساؤلات مهمّة للغاية، تحمل بلاغة مرتبطة بأمكنة ومناخات، ما يصنع أفلامًا عميقة ومؤثّرة، تجعل كثيرين يصفونه بالمخرج الأهم والأكثر تأثيرًا، في تسعينيات القرن الـ20.

بداية مساره متمثّلة في أفلام خاصّة بمؤسّسة "قانون"، المعنيّة بتطوير القدرات الفكرية للأطفال والمراهقين، قبل بلوغه 30 عامًا. بعد 20 عامًا، أنجز أكثر من 20 فيلمًا قصيرًا ومتوسّط الطول. بفضلها، تعلّم أطفال كثيرون البساطة والعفوية، وأصالة النظرة إلى الأشياء.
متأثّرًا بجمالية المخرج الياباني ياسوجورو أوزو، تبنّى كيارستمي اللقطات الثابتة العامة، التي تتيح للمشاهد اختيار ما يرغب في النظر إليه داخل الإطار. هذه الثقة الممنوحة للمُشاهد، والرهان على فضوله، مكّناه من صنع أفلامه بزمنٍ وإيقاعٍ خاصّين به، ضد سينما تُملي عليه ما ينبغي عليه أن ينظر إليه ويفكّر فيه ويعتقده.

هذا ليس موقفًا جماليًا فقط، بل سياسي أيضًا، يقتضي تموقعه أخلاقيًا، من دون السقوط في الوعظ والإملاء، وتبنّي طرح سياسي من دون خطابية مباشرة، والحرص على الحفاظ على تعقيد الواقع بأيّ ثمن، كأنّ حياته متوقّفة على ذلك.

تقول مرجان سترابي إنّه الوحيد الذي "قَرَن طرحًا عميقًا حول إيران بالسينما، باعتبارها خطابًا كونيًا. من دونه، لم أكن يومًا لأفكر في إنجاز فيلمي (برسيبوليس)".

لا يلوح عباس كيارستمي بحريته في مواجهة الرقابة، فهي كامنة في أفلامه، وينبغي بذل جهدٍ للبحث عنها في وجوه البسطاء وتفاصيل عيشهم. "سوف تحملنا الرياح" (1999) مثلاً يقول كلّ شيء عن وضع الكرديّ واغترابه، قائلاً إن لا وجود لإيران واحدة بل لإيران متعدّدة. فهو مهتمّ للغاية بفضاءات تكاد توازي أهمية الشخصيات نفسها. يقول: "إنْ وُضِعَت في مكان غير مناسب، تفقد الشخصية أهميتها وإنْ تكن قوية. لا معنى لفضاء جيد من دون شخصية تناسبه. هذان أمران لا يمكن الفصل بينهما. هناك أناس ومنازلهم، وبين المنازل والأشياء الموجودة فيها رابط خفي وانسجام ينبغي الحرص على عدم كسرهما".

كما أنّه غير مكتفٍ باختيار ممثلين غير محترفين لتأدية الأدوار، بل يطعّم شخصياته بتفاصيل من حياتها الخاصة، ويُغْني الحوار بجمل يستقيها من نقاشات معها خارج أوقات التصوير، كما فعل مع حسين في "عبر أشجار الزيتون" (1994)، ونظريته عن ضرورة اختلاط الطبقات والمستويات المعرفية والمادية بمناسبة الزواج، لتحقيق العدالة الاجتماعية.

من أبرز تجليات التخييل في أفلامه، تبنّي ذاتية الشخصية، كما في "المسافر" (1974)، إذْ يغفو الطفل قاسم على العشب، في ضاحية المجمّع الرياضي؛ أو في "الكورال" (1982)، بإلصاق شريط الصوت بكيفية استماع الشيخ للعالم. الحرص على الذاتية يتيح له الخروج من نطاق الطبيعية، إلى آفاق واسعة للتخييل، فالإنسان، بالإضافة إلى طبيعته المتفاعلة مع محيطه، كائن مركَّب، تجتاحه أحاسيس وهواجس وأحلام.

جوهر التخييل في مقاربة المعلّم الإيراني يكمن في ترتيب المَشَاهد، وما يختار حجبه عن المُشاهِد، وفي الفلسفة العميقة الكامنة في اختياراته. مثلاً، يختار حجب العقاب الذي يناله أحمد، عند عودته متأخّرًا، في نهاية "أين منزل صديقي؟" (1987). يقول: "أرغب في أن يُخلِص كلّ شيء في فيلمي للواقع. أريد إظهار الحقيقة. هذا فيلم سياسي أيضًا، فالسياسة تلمس كل مناحي الحياة، وتؤثّر في عيش كلّ فرد من أبناء المجتمع. لكنه، في جوهره، فيلم وديع. أردت إنجاز فيلم عن الحب لا عن السلطة. لذا، لم أظهر في الجزء الأخير كيفية معاقبة الطفل".
أي مخرج "عادي" يختار حجب أهم مَشاهد "كلوز - أَبْ" (1990)، معتبرََا أنّ مجملها ذو طبيعة إجرائية: مشاهد لقاءات أولى، تعارف واستفسار، وحصول على رخص إدارية وتصاريح معنوية بقبول التصوير. أكثر من هذا، ففي لحظة حاسمة ينتظرها الجميع (لقاء محسن مخملباف بحسين سبازيان)، يُخيّب كيارستمي توقّعاتهم، متّخذًا مسافة كبيرة مع الحدث، فيصبح الصوت متقطّعًا بداعي نفاد بطارية جهاز التسجيل، قبل أنْ تغمر الموسيقى المشهد.

لا يكلّ كيارستمي عن التذكير بأنّ كلّ عمل سينمائي جدير بهذه الصفة. ينبغي عدم منح المُشاهد كلّ شيء، فهو في هذه الحالة يغدو مجرّد متفرّج. لا يكتمل العمل إلّا بنظرة المُشاهد ورؤيته، ومهمّة المخرج فتح أكبر حيّز لإدخال المُشاهد في الفيلم: "الغموض أساسيّ. ينبغي ألّا نتوقف أبدًا عن السعي إلى استكشافه. البعد الأحادي، الذي أجده في بعض الأفلام، يبدو لي خاطئًا ومتصنّعًا. أحب الغموض، وأتحمّل العواقب كلّها لهذا الحبّ".



تتبنّى سيناريوهات كيارستمي ذريعة القيام بجولة أو سفر بين شخصيات ومناخات، تمثّل الحساسيات كلّها في المجتمع الإيراني. هكذا، تبدو شخصياته في حركة مستمرّة، وبحثٍ دؤوب عن شيء، ما يمنح جنسًا هجينًا بين فيلم الطريق وأفلام الاستكشاف. لكنّ الإعجاز كامن في براعة الحبكة في التعبير عن أنّ الرحلة، بحدّ ذاتها، أهم من الهدف المنشود. في "المسافر"، يستسلم قاسم للنوم، ويفوّت عليه مُشاهدة المباراة، التي بذل جهدًا كبيرًا لحضورها. وفي "أين منزل صديقي؟"، يقرّر أحمد فجأة الإحجام عن تسليم الدفتر إلى زميله، أمام منزل هذا الأخير، الذي بحث عنه ساعاتٍ طويلة.

إفراغ السعي من رهان الهدف المنشود، والتركيز على ما جناه المرء أثناء مسار السعي، منهجٌ ذو طابع صوفي، يحاكي فلسفة الوجود نفسها، وعدم جدوى البحث عن هدفه، وضرورة عيش الحياة، بحلوّها ومُرّها.

تبقى ضبابية الفوارق بين الوثائقي والروائي، وهذه من أهمّ استراتيجيات التخييل عنده. بهذا، فإنّ "كلوز - أب" استثنائيٌ، ومَعْلَمة حقيقية، لكنه عصيٌّ على التصنيف، لحرقه الحدود كلّها بين الواقع والخيال، وبين الحقيقيّ والمزوّر. يقول الإيطالي ناني موريتي عنه: "في حوارات قصيرة وعفوية، يطبع الفيلم ذاكرة جيل كامل من السينمائيين، الساعين بدورهم إلى إلغاء قواعد الروائي والوثائقي لالتقاط حالة الترنّح التي يعيشها العالم المعاصر".

أما إنجازه الأكثر إبهارًا، فيتمثّل في "ثلاثية كوكر". هذا غير مسبوق في تاريخ السينما. بعد "أين منزل صديقي؟"، يعود إلى منطقة "كوكر"، التي تعرّضت لزلزال قوي ومُدمّر، منجزًا "وتستمرّ الحياة" (1991)، كانعكاسٍ لقصّته عبر البحث عن الطفل الذي مثّل دور أحمد في أول فيلم من الثلاثية. بعد أعوام، أنجز "عبر أشجار الزيتون"، عن تصوير مشهد معين من ثاني أفلام الثلاثية. إذًا نحن أمام فيلمٍ، يقتفي تصوير مشهد من فيلمٍ، يصوِّر عودة مخرج إلى مكان تصوير فيلمه السابق، بحثًا عن طفل مثّل فيه الدور الرئيسي. كلّ فيلم من أفلام الثلاثية يرتفع درجة على سلّم الواقع، وينظر إلى سابقه باعتباره عملاً تخييليًا محضًا.

يقول كيارستمي: "أعتقد أن كلّ شيء نصدّقه موجود بالفعل، يومًا ما. هذا الشيء ليس واقعيًا بالضرورة، لكنه حقيقيّ، وإنْ يكن نتاج خيال محض".

المساهمون