عن مطربة تعتزل باكرًا: نورهان وسحر الذاكرة

عن مطربة تعتزل باكرًا: نورهان وسحر الذاكرة

17 يونيو 2019
"نورهان، حلم طفلة": ذكريات ماضٍ قديم (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
مطربة وممثلة، تنطوي على نفسها سنين طويلة، قبل أن توثّق كاميرا حفيدتها بعض حياتها. نورهان تلمع بين عامي 1940 و1965، بفضل صوتها الجميل، بينما التمثيل يأتي لاحقًا. سيرتها معقودة على غليان مرحلة في بلدان عربية مختلفة (لبنان وفلسطين ومصر وسورية والعراق). الغليان متنوّع. الفنّ يصنع لحظاتٍ تبقى فريدة ومتميّزة بجماليات وسحرٍ. الحياة المرافقة للفنّ مُتْعِبة، فتعتزل نورهان، وتغادر المشهد، وتنزوي في أمكنة حميمة، تصنعها وترضى بها. أحوال "المهنة" قاسية، والانسحاب خيرٌ لها. أو بحسب قولها: "الملل". هناك أيضًا حفلات غير مدفوعة. الحياة محتاجة إلى مال. الانتقال إلى الإذاعة. أسباب العزلة عديدة، لكن النتيجة واحدة.

مي قاسم تريد وثيقةً تحفظ بعض ذاكرة. السينما أداة. "نورهان، حلم طفلة" متأتٍ من رغبة في الاستعانة بالسينما. الوثائقيّ أفضل في التعامل مع شخصية كنورهان، والاسم خليطٌ مُخصّص بها، مأخوذ من اسمي نور الهدى وأسمهان، كما تقول خيرية جركس (اسمها الحقيقي). هذا غير عابر. في صوتها جمالٌ قادرٌ على الصمود أمام صنيع المطربتين. لها مع محمد عبد الوهاب صداقة، كما مع محمد عبد الكريم، "أمير البزق". تتزوّج محمد سلمان، وهو زوج ثانٍ لها (عيبه أنّه يلعب القمار، كما تقول، من دون نسيان أنّه "منيح"، وأنّه "خفيف الدم وطيّب وكريم"). للزوج الأول معها حكاية تنتهي بانفصال ضروريّ. للغناء والموسيقى والسينما حضور في مجتمعات عربيّة تنهض من كبوة استعمار وطغيان، فتجد نفسها في استعمار وطغيان داخليين. الاجتماع منفتح، لكن كواليسه قاسية، والعلاقات صعبة. أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته وستينياته تبقى الأفضل والأهمّ في التاريخ العربيّ القريب. لكنه تاريخ متوتّر، فانقلاباته تُناقض إبداع فن وثقافة وأدب، وارتباكاته تُعاكِس حيوية عيشٍ.

لن يكون مهمًّا للغاية معرفة السبب الفعلي للانسحاب. في كلام نورهان (1922) أمام عدسة الحفيدة مي قاسم (1975) تلميح وتوضيح. بساطة سرد الحكايات مُثيرة لمتعة مُشاهدة. سخرية المرأة دعوة إلى نظرة مختلفة على عالم قديم. صراحة قول وبوح أجمل من أن يُختَزَلا بتعليق. نظرتها إلى ماضٍ، تضعه الحفيدة أمام عينيها وروحها، غير بكائيّة. الرثاء مُغيَّب، فالجدّة مُقيمة في عيشٍ يومي آنيّ تتصالح معه، أقلّه أمام كاميرا تنتقل في الأزمنة كانتقال نورهان، سابقًا، بين الأمكنة، من أجل حفلة أو سهرة أو فيلمٍ. عشق الحياة يلمع في عينيها المفتوحتين على الأوقات، واللمعان أبهى عندما تُخبر حفيدتَها عن علاقتها بالسينما، إذْ تقول إنّها، في الصالة، "تنسى الدنيا"، وإنّها "تندمج في الفيلم"، وتنسى "أنّها متزوجة" و"تنسى كلّ شيء". هوايتها الوحيدة (السينما) تجعلها "تعيش في عالم آخر" تمامًا. يظهر فريد الأطرش وهو يُغنّي، في "شهر العسل" (1945) لأحمد بدرخان، "ساعة بُقرب الحبيب". للّقطة دلالة. فيها تظهر نورهان أيضًا.

الصُوَر أمام الجدّة تروي معها شيئًا من فصول سيرة عجوزٍ أمام كاميرا شابّة. السيرة هنا مزدوجة، فهي سيرة امرأة تُغنّي وتمثّل وتعيش وتفرح وتتألّم، وسيرة مدن وفنون وأناسٍ. الفصل بينها غير ضروري. "نورهان، حلم طفلة" (إخراج وتصوير ومونتاج وتحريك مي قاسم) يعكس هذا كلّه، مُقدِّمًا إياه من دون تصنّع.

الكاميرا، بتواضعٍ وبساطةٍ يليقان بحضورٍ آسر للجدّة، غير معنيّة باحتيال بصري، أو بمُواربات واجتهادات. مي قاسم تريد توثيقًا يتضمّن صُورًا وأشرطة صوتية ولقطات من أفلامٍ، والأهمّ رواية الجدّة نفسها. الجدّة تبوح، لكنها تبدو كأنها غير مكترثة بتوثيقٍ، فاستعادة الماضي صعبة كصعوبة تحدّيات الماضي نفسه، بمساراته وأشيائه ومناخه ومرويّاته. في الماضي ألم وتخبّطات مقابل فرح وانشراح وعيش. في الراهن، استعادة مشوبة ببعض ألم وتنهّدات صامتة. التواضع والبساطة كفيلان بصُنع فيلمٍ يتوغّل عميقًا في سيرة عائلة منبثقة من انعدام الحدود بين الدول المتجاورة، ومن تداخل العائلات المنتشرة في جغرافيا واسعة. فنورهان ابنة شركسيّ سوري وشركسية من الأناضول (تركيا). تسرد الجدّة تفاصيل حبٍّ بينهما، كما تروي تفاصيل حميمة من حكايتها.

منحةٌ دراسية سورية تخصَّص لجدّ مي قاسم، لدراسة الإنكليزية في القاهرة، فيُسافر رفقة خيرية وابنهما زياد، والد مي. هي لحظة انتقال جعرافيّ واجتماعي وحياتي. التأخير في إرسال المنحة مرارًا يدفع نورهان إلى العمل. بداية مرحلة فنية. التفاصيل يتضمّنها سردٌ مبسّط للجدّة بنبرة صوت هادئة ودافئة، تميل أحيانًا إلى سخرية مبطّنة من أحوالٍ، كأنّ السخرية ردّ ـ ولو متأخّر ـ على مرارة اللحظات. القاهرة منارة فن وثقافة وآداب. بداية حياة لامرأة تخوض تفاصيلها كما يُفترض بعاشقٍ للحياة أن يخوضها. المُشاهدة غير مكتملة من دون استماع متأنٍّ لنبرة الجدّة في سردها الحكايات، ولما تحمله الحكايات من مُبطّن أحيانًا، وهذا أساسيّ لفهم نورهان.

نبرة نورهان مُحمّلة بسخرية وضحك وابتسامات. تُشاهِد لقطات من فيلمٍ (تظهر بطلته الشابّة في ثياب عرسٍ، وهي عازمةٌ على الانتحار)، فتسخر كثيرًا من المخرج. تروي اختباراتٍ تمثيلية لها، فتسخر من مخرجين عاجزين عن إكمال أعمالهم. بسيطة وهادئة، تلك الجدّة. تمامًا كبساطة وهدوء كاميرا مي قاسم في مرافقة الجدّة في رحلتها العائدة بها إلى أزمنة ومحطات وأناسٍ.

صلابة شخصية الجدّة تجعلها اليوم أقدر على نبش بعض ذاكرة من دون وجل أو تردّد، وإنْ يشوب النبش ألم وتنهّدات صامتة. تقول رغبةً في دراسة الطبّ، لكن زواجًا باكرًا (14 عامًا) يحول دون ذلك. ترضى، لكن مسار العيش لن يُساعِد على قبول دائم لما تنفر منه أو ترفضه. زياد، ابن الجدّة ووالد الحفيدة، أساسيّ في سيرتها. لاحقًا، تبوح نورهان للحفيدة عن سرّ انسحابها من الفن: رغبتها في تفادي ما يُمكن أن يُوصف زياد به في المدرسة، أي "ابن مغنيّة". هذا "مُعيبٌ"، حينها.

التفاصيل كثيرة. "نورهان، حلم طفلة" مُنجز عام 2016. إنه نتاج "تعاون وحبّ" بين الحفيدة والجدّة. تقول مي قاسم إنّها تُفكِّر به وتكتبه منذ 20 عامًا، وإنّها تُصوّره وترسمه منذ عام 2008. التحريك والرسوم فيه تُغطّي كلّها لحظات تاريخية غير مُلتَطقة فوتوغرافيًا أو تصويرًا. أو ربما نتاج رغبة فنية في إكمال سرد ذاتي لمي قاسم يواكب ما ترويه نورهان. يظهر نشأت صناديقي (عمّ مي) أمام الكاميرا. مُحبّ للغناء هو أيضًا. يروي بعض التفاصيل. تسجيلات قديمة من "الإذاعة الوطنية اللبنانية" مع مروان أبو نصر الدين، و"الإذاعة الوطنية السورية" مع رجاء الشربجي، تُشكِّل مدخلاً إلى الفيلم، وخاتمة له. صوت نورهان متأتٍ من زمنٍ قريب. تُغنّي "بلد الجمال" و"مالك ومالي" و"مين قالك حب" (تأليف عبد الجليل وهبة وتلحين فيلمون وهبي) و"يا مرخصين دمعكم"، وغيرها.

"نورهان"، بحسب مي قاسم، يبقى "حلم طفلةٍ" تبدو، بضحكتها وسخريتها وبعض مراراتها المبطّنة، كأنها غير راغبةٍ في أن تكبر، رغم تبيان مصالحتها مع العمر والزمن والماضي.

(*) يُعرض "نورهان، حلم طفلة" بين 17 و23 يونيو/ حزيران 2019، في صالة "سينما متروبوليس ـ أمبير صوفيل" (الأشرفية، بيروت).

المساهمون