رحيل زيفيريللي: عاشق شكسبير والأوبرا والسير الحياتية

رحيل زيفيريللي: عاشق شكسبير والأوبرا والسيَر الحياتية

16 يونيو 2019
فرانكو زيفيريللي (فيسبوك)
+ الخط -
مع شيوع نبأ رحيل السينمائي الإيطالي فرانكو زيفيريللي، أمس السبت، استعيدت بعض أبرز محطّات سيرته المهنيّة، خصوصًا تلك المرتبطة بمسرحيات الإنكليزي ويليام شكسبير (1564 ـ 1616). كما أنّ البعض توقّف طويلاً عند الحلقات التلفزيونية (371 دقيقة)، المُعنونة بـ"يسوع الناصري" (1977)، التي شاهدها ملايين المؤمنين والمهتمّين بسينما زيفيريللي، إذْ لم تتردّد محطات تلفزيونية عديدة، لبنانية تحديدًا، عن عرض الحلقات في أسبوع الآلام لدى الطوائف المسيحية الشرقية والغربية، عامًا تلو آخر.

العروض السنوية لحكاية السيّد المسيح، التي التزم فيها زيفيريللي النصّ الإنجيلي، أدّت إلى تبنّي مؤمنين كثيرين عملاً بصريًا كهذا، معتبرينه التجسيد الفني الأسلم والأهمّ للحكاية الدينية.

بين شكسبير والسيّد المسيح، بدا فرانكو زيفيريللي (1923 ـ 2019) أمينًا لبحثٍ سينمائيّ متنوّع الأشكال في مصير الفرد، كما في ارتباكاته ومشاغله وآلامه وكوابيسه، من دون الابتعاد عن المصائب التي تصنع قدرًا، وعن التمزّقات، الروحية والجسدية والمعنوية والفكرية، التي تُصيب المرء في مساره الحياتي، جرّاء سطوة السلطة، سياسيًا واجتماعيًا، أو بسبب النهم الذاتي للمرء للسيطرة على أقدار آخرين، عبر السلطة نفسها.

وإذْ يبقى "البطل" (1979) أبرز أفلامه وأكثرها جماهيرية، لشدّة ميلودراميته الفاقعة، ولبراعة ريكي شرودر (1970) في تأدية دور الابن الوحيد لبطل الملاكمة بيلي فلين (جون فويت)، وتمكّنه من التأثير في نفوس كثيرين، خصوصًا مع فقدانه والده في الحلبة؛ فإنّ "حبّ لا نهاية له" (Endless Love)، المُنجز عام 1981، يتفوّق على سابقه لجهة التأثير الأعمق والأقسى في مُشاهدين كثيرين في أنحاء العالم، بفضل قصّة الحبّ التي تجمع قلبي مُراهِقين في مواجهة أهلٍ رافضين للعلاقة بينهما.

وفي موازاة الهيام السينمائي لزيفيريللي بشكسبير، يعكس فيلمه هذا شيئًا من مناخات "روميو وجولييت"، المسرحية المنتقلة إلى فيلمٍ له بالعنوان نفسه (1968)، الفائز بجائزتي "أوسكار" في فئتي أفضل تصوير (باسكالينو دي سانتس) وأفضل أزياء (دانيلو دوناتي)، من دون أن يتمكّن من الحصول على إحدى الجائزتين الأخريين، المُرشّح عنهما في فئتي أفضل فيلم وأفضل إخراج.

شكسبير حاضرٌ أيضًا في لائحة أفلام زيفيريللي، الذي كان أشبه بـ"قائد جوقة التراتيل" (كما في تعليق رثائيّ قيل فيه بُعَيد رحيله)، في سينما جمالية "منقّحة" على يدي أستاذه لوتشينو فيسكونتي (1906 ـ 1976)، الذي بدأ زيفيريللي سيرته المهنيّة مساعدًا له. سينما مستوحاة من روائع الأدب الإنكليزي، ومن كبريات الأعمال الأوبرالية. فإلى جانب "روميو وجولييت"، هناك "عطيل" (1986) و"هاملت" (1990)، وقبلهما "ترويض النمرة" (1967)، الذي جمع أحد أشهر الثنائيات التمثيلية في تاريخ الفن السابع: إليزابيت تايلور (1932 ـ 2011) وريتشارد بورتون (1925 ـ 1984).

لكن، وفي مقابل الإبهار السينمائي في إدارة تايلور وبورتون، اللذين يتواجهان في لعبة مصائر وشغف، لم يبلغ "هاملت" (مِل غيبسون، 1956) مرتبة الإبهار، أدائيًا وجماليًا وفنيًّا ودراميًا، إذْ بدا الاقتباس البصري "هوليووديًا" أكثر منه تراجيديًا بالمعنى الشكسبيري البحت. في حين أنّ "روميو وجولييت"، مع الثنائي ليوناردو ويتينغ (1950) وأوليفيا هوسّاي (1951)، متمكّن من الحفاظ على نضارة النصّ الأصليّ، بما فيه من حب ومراهَقةٍ وألم وتمزّق وتمرّد وعصبيّة.

اما الأوبراليات، فمتمثّلة أساسًا بـ"لا ترافياتا" (1983)، المقتبسة عن أوبرا بالعنوان نفسه، وضعها غويسيبّي فِردي (1813 ـ 1901) عام 1853. لكن هوسه بالنصوص الأدبية والأوبرالية القديمة لن يحول دون ميله إلى الأحدث، ولو قليلاً، بتحويله رواية "جاين آير" (1847) للإنكليزية شارلوت برونتي (1816 ـ 1855) إلى فيلمٍ بالعنوان نفسه، عام 1996. حكاية غير مختلفة كلّيًا عن مناخات يميل زيفيريللي إليها، لما فيها من تعمّق وتأمّلات في أحوال الفرد ومساراته ومصائره. فاليتيمة جاين آير ـ التي تؤدّي آنّا باكوين (1982) دورها كطفلة، وشارلوت غاينسبور (1971) دورها كمراهقة ـ تعكس أشياء من بيئة اجتماعية قديمة، تبدو (الأشياء) سمات مشتركة في زمنٍ ومسالك بشرية مختلفة، وهذه كلّها تتمثّل بتخلّي الأب الأرمل عن ابنته، وبفظائع العيش في ميتم، وبالتحوّلات اللاحقة، التي تُتيح للمراهِقة فرصة إثبات وجودها عبر علاقات ومصالح واحتيالات.

أما الأعوام الأخيرة (1999 ـ 2002) من السيرة المهنيّة لفرانكو زيفيريللي، الذي يُدرِك تمامًا عالم الميتم لعيشه فيه فترة طويلة من مراهقته، فتتميّز بندرة الأفلام، وببداية انغلاق على الذات، رغم اشتغاله على مشاريع فنية غير سينمائية، وغير مكتملة. عام 1999، يستعيد ـ في "شاي مع موسوليني" ـ حقبة من تاريخ إيطاليا (ثلاثينيات القرن الـ20)، عبر نساء إنكليزيات مُقيمات في فلورنسا عشية صعود الفاشيّة والتحوّلات المرافقة لها في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والعيش اليومي. وعام 2002، يختار اليونان لإنجاز "كالاس دائمًا"، مستعيدًا ملامح من سيرة المغنيّة ماريا كالاس (1923 ـ 1977) عبر الممثلة الفرنسية فاني آردان.

المساهمون