ألديمار ماتياس: "على الفيلم ألاّ يكون نضاليًا"

ألديمار ماتياس: "لديّ موقف سياسي لكن على الفيلم ألاّ يكون نضاليًا"

12 يونيو 2019
ألديمار ماتياس: التسييس مهم لكن خارج السينما (فيسبوك)
+ الخط -

حياة الناس اليومية في كوبا نادرًا ما نُقلت إلى الشاشة الكبيرة. "لا أرانكادا"، للبرازيلي ألديمار ماتياس، يُعوّض هذا النقص، بتصويره رياضية تُدعى جنيفر، تعيد النظر في عضويّتها في المنتخب الرسمي الكوبي. أمّها ماربيليس تدير مؤسّسة صحية في هافانا، وشقيقها الأصغر يستعدّ لمغادرة البلد. تزداد شكوك جنيفر في خياراتها.

عبر حكاية عائلية، يرسم ماتياس بورتريه لبلد في مرحلة انتقالية، تضع الناس في حيرة أمام الرحيل أو البقاء.

بمناسبة فيلمه الأخير هذا، أجرت "العربي الجديد" هذا الحوار مع ماتياس.

(*) "لا أرانكادا" فيلمك الوثائقي الطويل الأول.
- نعم. لكن سبق أنْ أنجزتُ أفلامًا قصيرة عديدة، عُرضت في أماكن مختلفة من العالم.

(*) هل تطلّب تحقيقه جهدًا كثيرًا؟
- تغيّرت معالم المشروع كثيرًا مع مرور الوقت. كنّا في شيء، ثم بتنا في شيء آخر. لكن، في النهاية، عندما انطلقتُ في صناعة الفيلم، سارت الأمور بطريقة سريعة إلى حدّ كبير. الفيلم كلّه مُصوَّرٌ في 18 يومًا، امتدّت على 3 أسابيع. أما المونتاج، فبدأنا العمل عليه مباشرةً بعد اكتمال التصوير، من دون إضاعة وقت.

(*) أنت برازيلي، لكنك أنجزتَ فيلمًا عن كوبا. ما الذي حملك إلى هذا البلد؟
- عشتُ عامين في كوبا أثناء دراستي في معهد الفيلم. منذ ذلك الوقت، بدأتُ أهتمّ جدًا بهذا البلد، وازداد شغفي به. يمكنك القول إنّي صرتُ كوبيًا نوعًا ما. في مرحلة من المراحل، كنتُ أتحدّث الإسبانية بلكنة كوبية. عشتُ ما يكفي من الوقت في كوبا كي أعرف الكثير من تفاصيلها، أشياء لا يراها السيّاح عادةً. في الوقت نفسه، لستُ كوبيًا حقيقيًا. هناك نوع من علاقة تربطني بها، لا أعرف كيف أصفها بالكلمات، لكن يُمكنك أن تشعر بها في الفيلم. تفاصيل ربما تكون عادية عند الكوبيين، لكنها لا تزال غير مألوفة عندي، لأنّي لستُ من كوبا. إذا مَكثتَ فترة طويلة في كوبا، فلن ترى هذه التفاصيل.

(*) كيف عاشت كوبا النقلة من الاشتراكية إلى الرأسمالية؟
- إنها نقلة طويلة، بدأت تحدث حتى قبل أن تُطلق عليها تسمية "نقلة". ذهبتُ إلى كوبا للمرّة الأولى عام 2010. كان هناك هذا "المطعم الخاص"، الذي يملكه الجميع في باحة المنزل، ثم بدأ يصبح أكثر شعبيةً. الآن، هناك مطاعم كما هو الحال في أيّ مكان من العالم. بدأ الناس يشترون المنازل، إلخ.

في آخر زيارة لي إلى كوبا، شاهدتُ محلات تبيع الحيوانات الأليفة. كان هذا مستحيلاً قبل بضعة أعوام. ثم اكتشفتُ أنّه باتت هناك محلات للغسيل الأوتوماتيكي للسيارات. هذه الأشياء الصغيرة كلّها تدلّ على تغيير ما كان يحصل. لكن، في الوقت نفسه، لم يتمّ التفريط بنظامي التعليم والسكن. سهل جدًا، بالنسبة إليّ كغريب، أنْ أقول للكوبيين: "لا تغيّروا شيئًا، لأنّي أحسّ بحنين تجاه تاريخكم". لكن لا أسمح لنفسي بقول كلامٍ كهذا، فأنا لستُ كوبيًا، ولم أعش ما عاشه المواطن الكوبيّ من حصار طوال أعوام. أخشى فقط ألّا تبقى هافانا أكثر العواصم أمانًا في أميركا اللاتينية.

(*) كيف تعرّفتَ إلى الشخصيات التي صوّرتها؟
- في البداية، التقيتُ ماربيليس، أمّ جنيفر. كانت شخصية فيلم سابق لي أنجزته قبل 3 أعوام. أحببتُ "كاراكتيرها" جدًا، فأردتُ تكرار التعاون معها. طلبتُ من ابنتها جنيفر أن تحضر التصوير. عندما رأيتُ الأم والابنة تتحدّثان إحداهما مع الأخرى، شعرتُ بأن هناك مادة لحكاية. ثمّ تعمقتُ أكثر في العلاقة التي تربط إحداهما بالأخرى، ومدى تعلّقهما ببعضهما. هذا نوعٌ من العلاقة يكاد يكون صداقة، مع محافظة كلّ واحدة منهما على مقاربتها الخاصة للحياة، بسبب اختلاف الجيلين. فلكلٍّ منهما رؤية مختلفة للمستقبل.

(*) هل صعُبَ عليك تجاوز توقّعات الجمهور، المرتبطة بصورة معينة ارتسمت في ذهنه عن كوبا؟
- المشكلة أنّك عندما تتحدّث عن كوبا، يكون للناس رأي متطرّف بشأنها، إمّا أنّهم يعبّرون عن حبّهم لهذا البلد، وإما عن كراهيتم له. أحيانًا، يصعب جدًا انتقاد كوبا، لأنّ الناس تربط تلقائيًا بين كلامك والمديح المجاني لنظام العيش الأميركي. هذا غير منصف، لأنّ البلد قائم على تناقضات كثيرة. مثلاً، ماربيليس لا تزال تعيش في زمن الثورات التي تأتي من الستينيات الفائتة. نَفَسُها ثوريٌّ. تخطب أمام عمّالها خطابات تحمل نبرة وطنية. وفي الوقت نفسه، لا تتردّد عن مساعدة الآخرين على مُغادرة البلد إلى غير رجعة، بحثًا عن حياة أفضل في مكان آخر. لذا، لا يمكن توزيع الأشياء على أساس أسود أو أبيض. كوبا تمرّ في مرحلة انتقالية، والناس حائرون جدًا، لا يعرفون أين يُموضِعون أنفسهم. التناقضات التي تعيشها العائلات الكوبية تشرح صعوبة الانتقال من إرث الاشتراكية إلى الرأسمالية. لكن الأشياء لا تتغيّر هكذا، بين ليلة وضحاها.

(*) أعتقد أن من وظائف السينما إظهار الفرق الكبير بينها وبين وسائل الإعلام، التي تُقدّم غالبًا رؤية سطحية للأشياء.
- تمامًا. لكن الأجندة السياسية تُثْقِل أحيانًا كاهل الفيلم الوثائقي. يحملها على ظهره كعبء. كأن يُطلب منك أن تنشط سياسيًا، علمًا أنْ هذا يضرّ بحكاية الفيلم. لا مشكلة في أنْ تكون ناشطًا، وأنْ تدافع عن قضايا كثيرة، لكن ليس عندما تحمل كاميرا لتصوِّر فيلمك. عندما تحمل الكاميرا، عليك أنْ تكون مهتمًّا بشيء واحد فقط: إظهار مدى تعقيد الظرف الذي تُصوّره.

الضمير السياسي مهمّ جدًا، لكن عليك أنْ تُمارسه خارج نطاق العمل السينمائي. أنا كسينمائيّ، لديّ موقفي السياسي، لكن الفيلم نفسه يجب ألّا يكون عملًا نضاليًا.

أردتُ تفادي هذا النمط "البروباغندي" في تصوير كوبا، إنْ يكن مديحًا أو تنديدًا. أنا شخص مسيّس جدًا. ساندتُ قضايا كثيرة، كالنسوية وحقوق المثليين. أعي جدًا الواقع الذي على الأرض، من خلال اطّلاعي على السياسة وانخراطي فيها. مع "لا أرانكادا" مثلاً، لم أرد منذ البداية تكريس شخصية "المنقذ الأبيض"، كما في أفلامٍ متعددة. ضقنا ذرعًا بـ"الرجل الأبيض" الذي ينقذنا، لذلك لجأتُ إلى امرأتين من البشرة السوداء. رغم ذلك، لا أستطيع حمايتهما. عليّ أنْ أظهر نقاط ضعفهما.

(*) هل واجهتَ مشاكل مع السلطات الكوبية خلال التصوير؟
- كان الأمر أشبه برقصة مع السلطة. في كوبا، لا تعلم مسبقًا موقف السلطة من الأشياء التي تصوّرها. ربما يُقال لكَ "نعم"، وربما "لا". كلّ شيء يتوقّف على الظروف. يجب أن تجيد كيفية تقديم المشروع. هناك تفاصيل صغيرة يجب أنْ تعرفها، وهذا يعطي مشروعك صدقية أكبر. بصراحة، لو كنت محلّ السلطات، لمَا خشيتُ من الفيلم، ولمَا اعترضتُ عليه وعلى الصورة التي يرسمها لكوبا المعاصرة، في ضوء التغييرات التي تشهدها. النقد الذي في الفيلم ليس مؤذيًا.

ربما لا تكون تجربة التصوير في كوبا عند شخص آخر مشابهة لتجربتي. أنا أتكلّم عن نفسي فقط.

(*) لكن، دعني أكون صريحًا معك: لم تقدِّم فيلمًا مُضيئًا بالأمل إلى هذا الحدّ. هذا فيلم سوداوي في نهاية المطاف، يؤكّد أنْ لا مستقبل مُمكنًا في كوبا. 

- وددتُ فيلمًا يطرح علامات استفهام، ويعبره الشكّ. أفهم أنّ هناك نبرة "ميلانكولية" تساهم في إيصال هذا الإحساس إليك. لكن الأمور أعقد من هذا بقليل. ربما جملة إحدى صديقات جنيفر تعبّر أكثر عن حال التناقض التي يعيشها بعض الناس في كوبا، إذْ تقول: "أريد أنْ أهاجر إلى كندا، لكنّي أريد أنْ أموت في كوبا". عمومًا، لم أهتمّ كثيرًا بمعرفة ما إذا كان هناك مستقبل أم لا، بقدر اهتمامي بمشاعر الناس لحظة قرارهم الرحيل.

(*) هل صوّرتَ الكثير من الـ"راشز"؟
- صوّرتُ نحو 40 ساعة. عادةً، لا أصوّر إلى هذا الحدّ. لكن، خلال تحقيق هذا الفيلم، لم تكن ثقتي بنفسي في أعلى مستوياتها، فكرّرتُ كثيرًا كي أحصل على ما أريد.

(*) هناك مدارس متعددة في صناعة الوثائقي، هل تشعر بأنّك تنتمي إلى إحداها؟
- أستطيع القول إنّ طريقتي في العمل كلاسيكية جدًا. لا أعرف إذا كانت تصحّ تسميتها بـ"سينما الحقيقة". مثلاً، لا أؤمن بتقنية وضع الكاميرا في مكان ما، وانتظار حصول شيء ما قبالتها. عليك أنْ توفّر الظروف والشروط المناسبة ليظهر الواقع على الشاشة. لا أتحكّم بالأشياء ولا أمسرحها، لكنّي أحاول الاشتغال على ردود فعل الشخصيات، وبلورتها وتطويرها.

المساهمون