محسنة توفيق: نجومية أمّ وحِرفية أداء ومتانة حضور

محسنة توفيق: نجومية أمّ وحِرفية أداء ومتانة حضور

08 مايو 2019
محسنة توفيق البحث عن الشخصية وما يحيط بها/ فيسبوك
+ الخط -
ترحل محسنة توفيق قبل أشهرٍ قليلة على بلوغها 80 عامًا (29 ديسمبر/ كانون الأول 2019). تغادر بعد أسابيع قليلة على تكريمٍ لها في أسوان (الدورة الثالثة لـ"مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة"، المُقامة بين 20 و26 فبراير/ شباط 2019). تترك، بعد سنين طويلة، بهيّة وأم يحيى وأنيسة، فهي مُتعبةٌ، وثقل الأزمنة ضاغطٌ، ورغبة الانعتاق والراحة مُلحّة. لمحسنة توفيق فعلٌ أدائيّ يتمثّل في بلورة حضور درامي وجمالي لشخصية الأمّ، وهو فعلٌ أهمّ وأرقى وأعمق من ممثلات كثيرات غيرها، يَبْرعْن في تأديته، لكنهنّ يبقين أقلّ مرتبة من تلك التي تبلغها محسنة توفيق، وإنْ في أعمالٍ قليلة.

هذا لن يكون مجرّد رأي. رحيلها صباح أمس الثلاثاء، 7 مايو/ أيار 2019، دعوة إلى استعادة حضور سينمائي لها، بمعاينة اشتغالها في "العصفور" (1974) و"إسكندريه ليه!" (1979) ليوسف شاهين، و"ليالي الحلمية" (الأجزاء الثاني والثالث والرابع والخامس، تأليف أسامة أنور عكاشة، إخراج إسماعيل عبد الحافظ) تحديدًا، فمعاينة كهذه كفيلةٌ بتبيان جمالية اختبار دور الأمّ وتنوّعه، وكثافة حضور الممثلة وجماله.

فبهيّة، المصنوعة كرمزٍ لمصر، بل لرؤية شاهين لمصر، هي أمٌّ (أبناؤها شعبٌ بكامله) تريد خلاصًا من بطش هزيمة، وخيبة انكسار، وتفكّك بيئة واجتماع، متأتٍ (التفكّك) من انقلابات الداخل وتمزّقاته. وأم يحيى تنكمش في ذاتيّة منكشفةٍ في صورتين: أولى كأمّ شاهين في وداعه قبل سفرٍ إلى خارج شارع ومكانٍ، وثانية كأمّ تائهة، ولو قليلاً، بين رغبةٍ لاواعية في الإمساك بابنها وإبقائه إلى جانبها، واستسلام واعٍ بضرورة أن تكون له حرية قول وفعل. أما أنيسة، فتعكس بهاء علاقة بين أمٍّ مكتفية بتربية ابنٍ ليس ابنها البيولوجي، وابنٍ يجعل الوفاق والتواصل والطاعة، غير الخانِعة أو المنكسرة، أسس ارتباطٍ يتفوّق على ذاته في صنع مَتانة علاقة، مشوبة بشوق وتماهٍ، بين ابن وأمّه، قبل أن تنقلب الأقدار، فيُسرف الابن في تمرّدٍ قاتل على أبٍ ينفضّ طويلاً عن ابنه رغم اقترابٍ ما منه، وتغوص الأم (أنيسة) في غيابٍ تدريجي.

وإذْ تُختصر السيرة المهنيّة لمحسنة توفيق بصُوَر مختلفة عن الأم، فهذا لن يحول دون تنبّه إلى مشاركاتٍ لها في أعمالٍ أخرى، لن تكون كلّها متساوية في اشتغالاتها الفنيّة. مع عاطف الطيّب مثلاً، لها فيلما "الزمار" (1985) و"قلب الليل" (1989). مع شاهين نفسه، لها فيلم ثالث: "وداعًا بونابرت" (1985)، وفيه تؤدّي دور أمٍّ أيضًا، كأنّ الممثلة معقودة عليه، أو كأنّ الدور اختبار دائم لها، يحثّها على ابتكار أدواتٍ جديدة لتقديم شخصية واحدة. أو كأنّ شاهين، بفطنته الواعية وخبثه السينمائي وجماله المعرفيّ، يُدرك أنّ فيها قدراتٍ على جعل الأمّ أجمل وأصدق وأعمق في كلّ مرة، وعلى دفعها إلى تخوم المغامرة المصنوعة بمفرداتٍ، تمزج بين حساسية الشخصية في الحياة الواقعية، ومتطلّبات اللغة السينمائية في إضفاء مزيج من الواقعية المطلوبة، والتفلّت الجماليّ في تأدية الواقعية تلك.

تقول محسنة توفيق إنّها مهتمّة بكلّ ما يُحيط بالشخصية التي تختارها، وليس فقط بالشخصية نفسها. تُنقِّب في بيئة الشخصية وتكوينها النفسيّ ـ الاجتماعي. تبحث عن مفرداتها الواقعية، كي تتحصّن فيها منعًا لخطأ أو خلل، فالتمثيل، وإنْ يكن أداءً ومهنة وانشغالاً عن الواقع لحاجته إلى الخيال، مُطالبٌ بحِرفية التماهي بالواقع، أو على الأقلّ بضرورة الاستناد إلى الواقع، كي يكون المتخيّل أكثر تحرّرًا في وظيفته، كابتكارٍ وجمالياتٍ. فهل يأتي هوسها بالاشتغال على الشخصية، وعلى ما يحيط بها من تفاصيل ومناخات وعوالم وتأثيرات، من دراستها الجامعية في شؤون الزراعة؟ أم أنّ تطوير صورة الأمّ نتاج تفاعل لاواع بين حياتها وانهماكها في بناء سينمائي لتلك الشخصية تحديدًا؟

مع عاطف الطيّب، تذهب محسنة توفيق إلى المختلف تمامًا، إذْ تنتقل من حساسية امرأة تحتضن ابنًا، إلى امرأة تحتضن رجلاً تائهًا في مصائب حياة، وتوّاقًا إلى خلاصٍ معلَّق، وراغبًا في انعتاقٍ من سلطة أبٍ. في "قلب الليل" (قصّة نجيب محفوظ، سيناريو وحوار محسن زايد)، تحتلّ هدى هانم صديق (توفيق) مكانة بارزة في مقاربة التوهان الشبابيّ، إذْ تُصبح زوجة ثرية لشابٍ (نور الشريف)، يُفترض به أن يكون ثريًا هو أيضًا، لكن تمرّده سببٌ في تشرّده القاسي في مناحي العيش والعلاقات والبحث عن منافذ ملتبسة لنجاة غامضة. محسنة توفيق، بتأديتها دور السيّدة الثرية، تؤكّد أنّ للتمثيل أولوية، وأنّ للشخصية متطلّبات لن تحول دون تقديم المُستَحَقّ للشخصية والفيلم، ولها هي أيضًا كممثّلة محترفة.

وإذْ تختبر محسنة توفيق، في اشتغالاتها السينمائية تحديدًا، مسالك مخرجين وكتّاب، وأمزجتهم وأنماط تفكيرهم، فهي غير متردّدة عن تجربة "البؤساء" (1978) لعاطف سالم. العنوان يُحيل إلى رواية (1862) للفرنسي فيكتور هوغو، والفيلم محاكاة مصرية لنصٍ مفتوح على العالم، من خلال سيرة الفقر والتشرّد والبطش السلطوي، قبل التحوّل إلى سلطةٍ بفضل المال. سرقة رغيف خبز سببٌ كافٍ لسجن فقير يتمكّن لاحقًا من الهرب، ويحصل على مال، ويعود برغبة الانتقام.

رغم تنقّلها الأدائي المتنوّع، ولها في التلفزيون والمسرح حضور مختلف أيضًا، تتمكّن محسنة توفيق من تحصين ذاتها إزاء مغريات النجومية، فنجوميتها الحقّة مستمَدّة من تفنّنها في انتقاء الأدوار، وإعلاء الصوت، وتحويل النبرة إلى تنصّت عميق يكشف غليان ذات وبيئة، ويعكس مسارات حياة وانقلابات. مع هذا، تشعر أنّ هناك نوعًا من غيرةٍ بين مخرج وممثل جيّد، فللأخير وهجٌ لن يحصل عليه الأول، وإن يحصل عليه فلن يكون بالقدر نفسه، كما تقول. تُدرك أنّ وهجها أكبر من ذاك المتعلّق بمخرجين متعاونين معها، ما يُؤدّي إلى غيرةٍ لن تحول دون استمرار التعاون معها، وهذا تأكيدٌ على أنّ لها ما لا يُمكن تجاوزه: حِرفية تمثيل، ومتانة أداء، وقدرة إقناعٍ بواقعية دور ومصداقيته.
هذا كلّه صانع نجوميّة لها، تبدو أهمّ من تلك المُستندة إلى أضواءٍ استعراضيّة، وحضورٍ دائم ومُملّ خارج الـ"كادر"، هي التي تُتقن، مرارًا، كيف تصنع في الـ"كادر" أجمل نجوميّة ممكنة.

دلالات

المساهمون