مجنون "يصنع" قاموس لغة: "براعة" العاديّ

مجنون "يصنع" قاموس لغة: "براعة" العاديّ

06 مايو 2019
المجنون والأستاذ: تكامل من أجل لغة (فيسبوك)
+ الخط -
الروايات غير الموثّقة "رسميًا" تكون، غالبًا، أصدق من تلك المُعتَبَرة حقائق ووقائع موثّقة. المُحيط بالنواة مهمٌّ وأساسيّ، فله غالبًا دورٌ في صناعة الحدث، لن يكون (الدور) أقلّ أهمية وحيوية وشفافية وحقيقية من الحدث نفسه. مرويات عديدة توثِّق غير المُعتَمَد في كتب وأفكار وأيديولوجيات، فغير المُعتَمَد يكشف جوانب يتغاضى عنها المتن أحيانًا.

هذا يتناول مفاصل حياة وتاريخ وتبدّلات وابتكارات. لكلّ حدث حكاياته، وبعضها مخفيّ أو مُغيَّبٌ لأسبابٍ كثيرة. "الأستاذ والمجنون" (2019) لفرهاد صافينيا (1975) يُقدِّم شيئًا من السيرة الرسمية لـ"قاموس أوكسفورد الإنكليزي". مل غيبسون وشون بن يُعيدان تركيب جوانب وتفاصيل، مع أنّ الفيلم ينفتح على أسئلةٍ أخرى غير متعلّقة بالقاموس وبمحطة أساسية في تنفيذه. فيلمٌ يغوص في نَفْسٍ بشرية محطّمة، ويطرح أسئلة عن الحبّ والغفران والتسامح وعظمة الكلمة ومجاهل الجنون ورؤاه العميقة، وعن الذنب والخطيئة والمشاعر والموت، وعن السلطة وانكسارها أحيانًا أمام قوّة الكلمة والمستقبل.

أحداثٌ عادية تؤدّي إلى لقاء مُنتظر. طبيب عسكري أميركي يخرج من أهوال الحرب الأهلية الأميركية (1861 ـ 1865) محطّمًا ومُصابًا بأعطابٍ في العقل والنفس. هروبه الدائم من "شبحٍ" يُطارده لقتله (كما يتوهَّم) يدفعه إلى لندن. يرتكب جريمة قتل أمام عيني عائلة ضحية، ظنًا منه أن الضحيةَ هذه تُطارده، فيوضع في مصحٍّ لعلاج نفسي. سجّانون يكونون طيّبين معه فهو منقذُ زميلٍ لهم من نزيف دموي إثر تعرّضه لحادثة، رغم بتر قدمه. سلوك الطبيب المُعالِج خيّر، فيمنحه كتبًا وأقلامًا وأوراقًا للرسم. يغرق في عالم الكتب فهو خلاصه الوحيد. ذنبه يلحق به إلى زنزانته لكن الكتب والرسم إنقاذ فعلي له. يريد تكفيرًا عن ذنب اقترفه، والذنب بالنسبة إليه لن يكون جريمة قتل بل سلخ حياة من رجل أمام عائلته. يطلب اجتزاء مبلغ من راتبه التقاعديّ للعائلة المصدومة بالجريمة وبانقلاب الأقدار عليها. ترفض الأرملة أولاً، لكن شيئًا يدفعها إلى زيارة القاتل في زنزانته. تريد أن تكرهه. تريد أن تراه مكروهًا. لكن شيئًا آخر يجعل التسامح أسهل، والغفران أعمق: "إذا لم يكن حبًا... فماذا يكون؟". جملة مدمِّرة رغم عمقها وحساسيتها وصدقها. الطبيب العسكري السابق يزداد اكتئابًا وهلعًا، والأرملة تبدو كمن يُشارك في القتل مجدّدًا، والنفس البشرية ممزّقة، والانفعال حاضر، والرغبات تدفع إلى توهانٍ ومواجع وتمزّقات.

"قاموس أوكسفورد الإنكليزي" محور أساسي. الطبيب مولع بالقراءة. يتطوّع من زنزانته للمساعدة، فالمُكلَّف بتحرير القاموس، المصطدم بعوائق تحول دون إكماله، يوزّع رسائل إلى الجميع للمشاركة في البحث عن جذور الكلمات وتاريخها ومصادرها. العلاقة بين الطبيب واللغوي تنمو شيئًا فشيئًا، واللقاء الأول صدمة للّغوي وبدء مرحلة جديدة. الصداقة تنشأ. الطبيب يكسر الحاجز أمام القاموس. لكن التحدّيات كثيرة في الجامعة والسلطة البريطانيتين، الراغبتين معًا في إنهاء العمل شرط أن يكون العمل منزّهًا عن أي خطأ، والأخطاء تقع، والصدامات أيضًا، والمصالح والعلاقات تُخفِّف بعضها وتُسهِّل عملاً يؤدّي لاحقًا إلى إطلاق الجزء الأول.

التداخل بين العالمين الدراميين متوازن في توليفٍ (جون جيلبرت) يمنح المُشاهدة سلاسةَ مُتابعةٍ. النصّ السينمائي (جون بوورمان وتود كومارنيكي وفرهاد صافينيا)، المأخوذ من كتاب بالعنوان نفسه (1998) للصحافي والكاتب البريطاني سيمون وينشستر (1944)، يُخفِّف أثقال اللغة وتفاصيلها ومتاهاتها، لكنه لن يُقدِّم جديدًا في الصورة وابتكارات السينما. التمثيل، وإنْ يمتلك حِرفيته الجميلة، عاديٌّ لمن يُدرِك قواعده ومتطلّباته، ولمن يُنجز مفرداته. هذا يجعل الحكاية أجمل من الفيلم، والنزول إلى جحيم النفس واضطراباتها وقلقها وخرابها أجمل من البصريّ، والاغتسال المُرافق للألم أفضل من سرد قصّة.

شون بن (1960) يؤدّي دور الطبيب العسكري تسشتر مينور (1834 ـ 1920). مِل غيبسون (1956) يؤدّي دور المعجميّ وعالم فقه اللغة الاسكتلندي جيمس موراي (1837 ـ 1915)، الذي يُتعَاقَد معه، عام 1878، لتحرير القاموس وانتشاله من أزماته. ناتالي دورمر (1982) تؤدّي دور الأرملة إليزا ميريت. هؤلاء أساسيون. آخرون يُكمِلون المشهد. لكلّ واحد منهم دور، ليس كتمثيلٍ بل كحضور. له تأثير في سياق أو لحظة أو تغيير. لكن هذا كلّه عاديّ. جمالية الفيلم كامنةٌ في التوازن الحاصل بين الاشتغال على القاموس وملاحظة البيئة الحاضنة له والمحيطة بالعاملين فيه، والنفس البشرية وفضاءاتها والتباساتها وأهوائها وخرابها.
مدّة الفيلم (124 دقيقة) أطول من احتمال بعضه، قياسًا بما يُقدِّمه، فبعضه غير نافع، والتكثيف الدرامي مطلوبٌ أكثر، وثقل الميلودراما البكائية مُسيء للحكاية الأصلية.

فرهاد صافينيا متعاونٌ، سابقًا، مع غيبسون، فهو كاتب سيناريو "أبوكاليبتو" (2006) ومُشارك في إنتاجه. هذا رابع فيلم طويل لغيبسون كمخرج. لكن الفرق واضحٌ بين العملين. مع غيبسون المخرج، يغوص "أبوكاليبتو" في تاريخ حضارة مختفية، يُعاد ابتكار صُوَرها في عصر حاليّ، حيث العنف والتمزّقات والنزاعات والأهوال أجمل وأعمق وأكثر تكثيفًا. لائحة أعمال صافينيا متواضعة للغاية.

فيلمٌ لن يُضيف شيئًا على مسار تمثيلي لمحترفين فيه. رغم هذا، يُشاهَد "الأستاذ والمجنون" بهدف تبيان تفاصيل وحكايات، وهذا مُسلّ أيضًا.

دلالات

المساهمون