محمد عبد الوهاب... من النهاوند إلى السيكاه وبالعكس

محمد عبد الوهاب... من النهاوند إلى السيكاه وبالعكس

05 مايو 2019
صاغ ألحاناً مرتبطة بموجة الشباب وطعمها بملامح شعبوية (أرشيف)
+ الخط -
أمس، مرّت الذكرى الثامنة والعشرون لرحيل الفنان محمد عبد الوهاب (1902 - 1991)، وما زال يشكّل جدلاً، لعلّه الأكبر في الموسيقى العربية. فمن ناحية، هناك من يبجله ويضعه إلى جانب موسيقيين عالميين. بينما، على الجهة الأخرى، تلاحقه الاتهامات، حد التشكيك بنبوغه الموسيقي.

صعد عبد الوهاب مع تشكّل الذات الوطنية والقومية في مصر والعالم العربي، ثم أصبح واحداً من أهم رموزها. بمعنى أن كل ما أنجزه انصهر في تلك الذات، في سياق تأثيره، وتبعاً لذلك؛ فإن أي زعزعة لصورته تمثّل قضية عامة، ترتبط بحالة التعالي الناقص الذي من شأنه أن يصيب الثقافات المهزوزة.

دعونا ننظر، إذن، في الجوانب غير المطروقة في عبد الوهاب؛ باعتباره أكثر من أثّر في المسار الموسيقي العربي. رغم كثير من المآخذ التي شكّلت نقداً كبيراً له، إلا أنه لم تتشكّل هيمنته على الوعي الموسيقي العربي من فراغ، إنما نتاج مثابرة وجهد، كذلك موهبة كبيرة وذكاء. سنتناوله فقط من الزاوية المثيرة للجدل، أي الملحن، وليس المطرب، بما أنه امتلك واحداً من أبرز الأصوات في مرحلته الذهبية، قبل أن يخسر طبقات منه ليتوارى عن المشهد الغنائي مقتصراً على حضوره كملحن.

لنأخذ عبد الوهاب في صور متعددة؛ وهو ممسك بالعود، أشبه بحارس للموسيقى العربية. ملحنون كثيرون ظهروا بتلك الهيئة، لكنه عزز نفسه، باعتباره حاملاً للتقدم الموسيقي العربي. وهو أيضاً استطاع أن يهيمن على مدى عقود، وأن يكون حاضراً في أجيال عديدة كموجّه للشكل الموسيقي، إضافة إلى أنه جارى التوجهات السائدة في مراحل مختلفة. كما في الخمسينيات، عارض جيل عبد الحليم بأغنية "أنا والعذاب وهواك"، كما أنه صاغ ألحاناً مرتبطة بموجة الشباب آنذاك، وطعمها بملامح شعبوية.

وفي الصورة الأخرى؛ حين يقود أوركسترا موسيقية بهيئة الزعيم. تم منحه رتبة اللواء بعد توزيعه النشيد الوطني لمصر في عهد السادات، وظهر كقائد فرقة عسكرية. في الواقع، اعتمد عبدالوهاب على أحد الموسيقيين المصريين لتوزيع لحن سيد درويش "بلادي"، كنشيد ينتسب لمرحلة السلام مع "إسرائيل". كان موسيقياً شرقياً، يلحّن جملاً، وليس موسيقياً بالمعنى الصرف في الغرب، أي العالم بالصيغ الأوركسترالية والتوزيع الهارموني.

أما في الصورة الثالثة؛ فيظهر بتلك النظرة التأملية الساهمة متكئاً بسبابته على ذقنه، وعليها تتشكّل ملامح مركبة؛ صورة الفنان والمفكّر، لتُطلق عليه صفة أستاذ (يُقال إنه هو من أطلقها على نفسه)؛ فمنه انبثقت الأحكام على الموسيقى العربية. كان يطلقها ببساطة: تلك الفنانة أفضل من غنت حرف الحاء، وتلك من الملائكة؛ فكل ما يتعلق بالموسيقى العربية هو محوره، ومعظم ما يقوله من المسلمات؛ إذ لم يقتصر حضوره على إنجازه الموسيقي شديد الأهمية، بل أيضاً على الصبغة الأيديولوجية التي أحاطت حضوره ثقافياً، باعتباره رمزاً قومياً.

صورة الفنان والمفكر في نفس الوقت، وربما حامل الدكتوراه الفخرية. إنها الصورة المركبة والمعقدة لفنان، لا يمكن التشكيك أبداً في امتلاكه كل أدوات الصنعة الموسيقية الشرقية، ولا في منجزه الموسيقي الكبير، بصرف النظر عن بعض المآخذ التي ظلت تلاحقه. لكن في الجانب الآخر، ظل تلميذاً أمام الموسيقى الغربية. وهو السياق الذي نشأت عليه ثقافة تتطلع إلى النهضوية، وما زالت في مرحلتها الطفولية.

في لقاء له على هامش البروفة المصطنعة لأغنية "من غير ليه"، نهاية الثمانينيات، قدم على العود وبصوته لحن سيريناد Serenade للنمساوي شوبرت، كلحن أثر فيه، متحدثاً بإعجاب شديد حول تفوق موسيقى ذلك العالم "النموذجي"، وأضاف بالمحكية المصرية: "جتنا نيلة واللي بنعمله". سبق لعبد الوهاب وأن اقتبس لحن Serenade نفسه، في مقطع "كوني كما تبغين" من أغنية "لا تكذبي".

جسّد عبد الوهاب صورة الانتقال السريع في صناعة الموسيقى المصرية والعربية، أي من ارتباطها بالنخبة، إلى اتصالها بالسوق، كسلعة برجوازية. وهي وإن حرّرت الغناء من الصالونات الراقية، لم تحرّره كلياً من استبداد الطبقة السياسية والتقاليد. ومع التحولات السياسية، كانت الموسيقى مطالبة بدمج عناصر جديدة في المضامين القديمة لتظل مواكبة التحولات.

تدرّج عبد الوهاب في مسيرته اللحنية من النخبوية إلى الجماهيرية، في صيغ تحاول دائماً التوفيق بين الذائقتين. ذلك أنه في بدايته استوعب البنية اللحنية الشرقية، فصاغ لحن القصيدة أولاً، على شاكلة أبو العلا محمد، ثم أضفى عليها، لاحقاً، صيغ مواكبة للموسيقى الغربية.

هذا هو الملمح الذي اعتاد عبد الوهاب أن يطبعه في مساره التحديثي، منذ أغنية "سهرت منه الليالي" عبر توظيف إيقاع التانغو في مزيج مقامي، يبدأ بالنهاوند الخالي من ربع الصوت، متنقلاً في مقامات مختلفة، وفي الشق الثاني يتخذ مساراً شرقياً خالصاً، من خلال السيكاه البلدي.

وهذا ما سنجده في أغنية "الجندول"، على صعيد البنية المقامية؛ تقسيم الأغنية في مسارين متجاورين مقامياً؛ غربي وشرقي، تأملي وتطريبي، ثم أصبح الأمر ثيمة مكررة في رؤيته للتقدّم الموسيقي، أي تهجين العناصر المختلفة عبر مجاورتها. جاء هذا بعد أن هيمنت مفردة التحديث على الخطاب العربي، سياسياً، وفي مجالات أخرى، الفن أبرزها طبعاً.

لم يقتصر عمل عبد الوهاب على استعارة صيغ لحنية غربية، إنما استعار كثيراً من الألحان أيضاً، وأعاد توظيفها في أشكال مختلفة. على سبيل المثال، اقتبس المقدمة الموسيقية لأغنية "الجندول"، من لحن سيمفونية الروسي رامسكي كورساكوف "شهرزاد"، تحديداً لحن الحركة الثانية. ووضع معالجة مقامية للحن، فالعمل الأصلي من سلم الماجور "العجم"، لكنه يتحول في "الجندول" إلى مقام فرح فزا المتفرّع من النهاوند.

كثيراً ما عُدت مقدمة الجندول الموسيقية واحدة من أجمل الحان عبد الوهاب الموسيقية، وهو ما يجعلنا نشعر بخيبة حين نكتشف أنها مقتبسة، مع هذا لا يمكن إلغاء اللحن ككل، بصياغته الرفيعة وثرائه، لمجرد تجاوزه في جملة موسيقية حدود الاقتباس "المسموح".

كان عبد الوهاب شديد الذكاء في قدرته على الدمج بين الحس الفني والتجاري. وإذا كان هناك نقاط ضعف حقيقية، فهي على صلة بالعصر، أو الواقع الذي مثله، وأصبح أيضاً من أهم رموزه الفنية.

في كل مرة، أثبت علو كعبه في الصنعة الموسيقية. ولولا إصراره على التهافت وراء الزعامة الموسيقية، لما شهدنا تلك الألحان المتحذلقة وشديدة البساطة، بحيث لا يمكن أن يضعها ملحن كبير بمكانته. فلم يكن ليصيغ لحنا مثل "أهواك" على رغم سلاسته ورومانسيته، عدا أنه ينم عن نزوع إلى مواكبة السوق أكثر منه عن اشتغال إبداعي. هناك ألحان أخرى له على تلك الشاكلة. لكن عبد الوهاب وقتها كان ممسوساً بجيل جديد من الملحنين، أراد احتواءهم في عباءته، ليبقى قائد مسيرة التحديث الموسيقي، أي في صورة "حامل عبء الموسيقى العربية على كتفه"، كما وصفه عبد الحليم عند تقديم لحنه "فاتت جنبنا".

لعل الأمر مرتبط أيضاً بالمآل، فبعد أن تبوأ الزعامة الفنية جماهيرياً لم يكن على استعداد للتنازل عنها، وإن كانت ستظل في سياق مختلف، أي نخبوي. لكنه أيضاً، كجزء فاعل في الوسط الفني، يدرك الجانب المادي منه والقاسي، وظل يدافع عن نفسه بشتى الوسائل، ليبقى في المقدمة لدى الجمهور.

بعض الملحنين اتهموه بأنه سرق الحانهم ونسبها لنفسه، مثل محمد الموجي وبليغ حمدي. ألحان لم تكن ذات قيمة فنية كبيرة، لكن ربما هذه الاتهامات، في سياق آخر، تُغازل تطلعه إلى النجاح المستمر، إن اعتبرناها شهادات حقيقية، إذ تكشف عن شهوة النجاح والجماهيرية لدى عبد الوهاب، أي نزوعه السلطوي في الفن.

على صعيد آخر، لا تمكن تبرئة عبد الوهاب من مسؤوليته لما آلت إليه الموسيقى العربية من انحدار، أي المسار الذي أدّى إلى ظهور عبد الحليم حافظ، وصولاً إلى عمرو دياب. وإن كان أيضاً على علاقة بالمظهر العام لصناعة الموسيقى وارتباطه بالجمهور.

لم يقتصر اشتغال عبد الوهاب على اقتباس ألحان كلاسيكية، بل أيضاً نقّب في الموسيقى الرائجة لدى الغرب، واقتبس من صيغها وألحانها. وهو الأمر الذي سارت عليه الموسيقى العربية في عصر البوب، توليف شرقي يحاكي أغاني البوب الغربية، مع تطعيمها بعناصر مختلفة؛ إسبانية ويونانية ولاتينية، وأيضاً أميركية.

بدأ عبد الوهاب في صيغ لحنية معقدة، ثم مع الوقت أصبح أقل تعقيداً حد التبسيط. ربما كنا شاهدنا عبد الوهاب مختلفاً، إن استمر صوته لزمن طويل، بصورته الذهبية، قبل فقدانه الكثير من الطبقات واضمحلاله. ومع نزوعه الذاتي، راح يفضل الأصوات ضيقة المساحة، ممجداً الإحساس والتعبير على حساب البنية الصوتية القوية. حتى في ألحانه لأم كلثوم، برّر شيخوختها في صيغ مبسطة شديدة البهرجة تخللها حدية أصوات كهربائية وآلات موسيقية غربية. هكذا أدار عبد الوهاب علاقته بمحيطه؛ محافظاً على مكانته في صورة استدعت وصفه بموسيقار الأجيال، وما زال يديرها بعد رحيله من خلال ألحانه، وأيضاً الجدل الذي ما زال يثيره، فجزء منه حقيقي، وآخر ملفّق.

المساهمون