هويّات تُعطِّل حبًا: أسئلة سينمائية

هويّات تُعطِّل حبًا: أسئلة سينمائية

24 مايو 2019
"لحياةٍ سعيدة" لكن مُعطَّلة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
مقاربة سليمة ساره غلامين وديمتري ليندر فكرة الهوية، في "لحياةٍ سعيدة" (2018)، بمنظار سينمائيّ قادر على كشف ما فيها من عناد ومراوغة، ومن قدرة على التَكيُّف وملاءمة الظروف كلّها، هذه المقاربة تُخَلِّصَ قصّة حبّ الشاب الباكستاني للطالبة الجزائرية في بروكسل من عاديّتها.

اختيار زاويةٍ للمقاربة، لم يتناولها سينمائيون مهتمّون بالهجرة، يفرض على غلامين وليندر كتابة نص يُوازن بين تجسيد الفكرة سينمائيًا، وملاءمتها مع حياة شبابية سريعة، ومشحونة بانفعالات وتوترات نفسية، لا تخلو من صدامات عنيفة.

الاشتغال السينمائي على المشهد الواقعي خيار مُقنع، يهدف إلى تقريب الفكرة مهما بدت ثقيلة. حركة الطالبة الجزائرية بين مدرستها وزميلاتها والبيت سريعة، تتطلّب كاميرا (يواكيم فيليب) تستجيب لها وتتحرّك معها، وفي حال ثبوتها وعدم اهتزازها يُفرَض على حاملها التحلّي بقدرٍ كبيرٍ من المرونة والتوافق مع بيئة شبابية لا تعرف ثباتًا، لا جسديًا ولا نفسيًا. الصراع الحاصل بين عائلتين مسلمتين بسبب علاقة عاطفية بين ابنيهما، يُبعد الـ"كليشيهات" التقليدية كلّها في الصراع الثقافي، كاختلاف ديانات وثقافات: غربي ـ شرقي، مهاجر ـ ابن بلد. هذا كلّه غير موجود في الفيلم، فجوهر التصادم كامنٌ في التشبّث بهويّات تعتزّ بجغرافيتها، ولا تتردّد عن أن تكون "قاتلة" أحيانًا.

في "الهويات القاتلة"، الصادرة بالفرنسية عام 1998 (ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي، 2004) لأمين معلوف، تجاوز السؤال عن سرّ الإلهام، الذي قاده إلى البحث في "المادة" العجيبة متعدّدة الوجوه، وتشخيص مكنوناتها بوضوح، إلى سؤال دهشة آخر عن سبب إغفال غيره من الباحثين والكتاب هذا الجانب الحيويّ من ظاهرة التصادم الثقافي. السؤال نفسه تقريبًا يُطرح في "لحياةٍ سعيدة"، لكن بصيغة سينمائية.

السرد الحكائي مُشيَّد على تطوّر علاقة الباكستانيّ ماشير (زيراك كريستوفر) بالجزائرية أمل (صوفيا لسفاري). الخوف من كشف أمرهما يُجبرهما على اللقاء سرًا، وتجنّب إشهار حبهما في مجتمع أوروبي منفتح. سلوك غير سوي، يستجيب لمطلب غير سوي آخر. الشاب حريصٌ على عدم أذية والديه، وأمل تتجنّب تعقيد علاقتها أكثر من ذلك مع والدها (أوسكار ألبي) المُحافِظ. لذا، يتركان علاقاتهما مفتوحة أمام الزمن والظروف. هذا مقطع من مشهد عامٍ لحياة مُهاجرين، جاؤوا إلى بروكسل مع ثقافاتهم، وحرصوا على حماية هويّاتهم من أي تهديد خارجي. العوائل الباكستانية تريد التزاوج فيما بينها. الأمهات والآباء، بكلّ ما يملكونه من خبث فطري متوارث، يشتغلون من دون كلل على تمتين جدران هوياتهم "المهدَّدة"، وقلاعهم الذاتية، المُشيَّدة قرب "أجانب"، يتمتّعون بحرية خياراتهم وتصرّفاتهم.



دورة العلاقة لا يُراد لها أن تكتمل. عناد الهوية عجيب. ما إنْ يلين لحظة حتى تراه يعود ثانية إلى التصلّب والثبات. عقول وسلوكيات تشتغل للحفاظ على هويتها، بينما جيل جديد ملتبس الهوية ينشأ وسطها، ويتلظّى بنيران "بكستنة" حياة و"محافَظَة" عربية.

على التناقض الحاصل بين الأجيال، اشتغل الثنائي غلامين وليندر بانسجام لافت للانتباه. تعاونهما في "بعد 3 دقائق" (2013) يُفسِّر جانبًا من كيفية عملهما. فغلامين ـ الجزائرية الأصل، والممثلة المُشاركة في الفيلم التلفزيوني "طاطا بختة" (2011) لمرزاق علواش ـ كتبت لليندر نصّ فيلمه القصير هذا، وسيناريو فيلمه الروائيّ الطويل الأول "لحياةٍ سعيدة"، الفائز بجائزتي النقّاد والجمهور في الدورة الـ33 (28 سبتمبر/ أيلول ـ 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان الفيلم الفرنكوفوني في نامور (بلجيكا)".

"أنتم تعيشون في فقاعة". هذه العبارة، التي أطلقتها أمل في وجه والدها لحظة غضب، تُكثِّف واقعًا، وتختصر معاني وقيمًا. فقّاعة يصعب الخروج منها، لحصانتها وكثرة العناية بها. فيها، يتعايش بشر لا يعبأون بما يجري خارجها. الخوف من انفجارها هاجسهم الوحيد. لا تهمّهم سعادة أولادهم، فجميعهم متيقّنون من أنها آتية، بمجرّد توافقهم مع شروط الحفاظ على الهوية/ الفقاعة.

لا يتردّدون عن اتّخاذ كلّ ما يعزّز دواخلهم الخائفة، وهذا يظهر مع فضح أمل سرّ فقدان عذرية زميلتها الباكستانية نور (عتية رشيد) أمام عائلتها. بفعلتها تلك، خرّبت مشروع تزويجها من ماشير، وعرّضت حصون منفّذيه لخطر الانهيار. نُبِذت وعُزِلت بسبب ما فعلته. لم تُفهَم دوافعها النبيلة، المتأتية من تمسّكها بحبّ صادق، ولم تُتَح لها فرصة توضيحها.

الأحداث المتوترة منقولةٌ بإيقاع سريع، يتوافق وسرعة تبادل الأخبار عبر الهواتف الذكية، والحركة الشبابية السريعة. إليها، هناك دائمًا حيوات تنتمي إلى مكانها، وتعيش في انسجام معه. جزءٌ كبير من ثقافتها يتسرّب إلى مهاجرين شباب، متأثّرين بأنماط عيشهم. العيش بين عالمين يُتعبهم، ويُحيل حياتهم إلى شقاء وصراعٍ داخلي على هوية، هم غير متحمّسين كثيرًا للاحتفاظ بها، فيتعرّضون لسلوكٍ مزدوج غير مريح، بذل الممثلون جهدًا رائعًا لنقله إلى الشاشة الكبيرة. عفوية أدائهم أحالت نصًّا لا يخلو من أوجاع إلى متعة بصرية، تصل إلى المُشاهد بسلاسة.

المشهد الختامي يفتح سجالاً. في لحظة انفصال ماشير عن أمل، تشرع "التترات" بالظهور على شاشةٍ سوداء. وما إنْ يتهيّأ المُشاهد للخروج من الصالة، حتى تظهر تكملةً للفيلم: يركض الشاب وراء حبيبته، ويتعانقان. هل أحرق المخرجان فيلمهما بمشهدٍ أُعِدّ لإرضاء نزعة رومانسية؟ هناك أفلام كثيرة أحرقت خواتيمها جهود صنّاعها، لكن البلجيكي "لحياةٍ سعيدة" يعاكسها، فارضًا منطقه التوافقي مع حياة هي أقوى من إرادوية أنانية، متشبّثة بهويّتها المفكَّكة.

دلالات

المساهمون