مسلسل "دقيقة صمت": آلام الحرب في صورة جماعية

مسلسل "دقيقة صمت": آلام الحرب في صورة جماعية

24 مايو 2019
أخرج العمل شوقي الماجري بطولة عابد فهد (تويتر)
+ الخط -
لا تقتصر عملية الانتقال الدرامي من نص إلى آخر على جودة الصورة والقصة فحسب، بل تتجاوزها لتصل إلى العمق، حيث شكل الحدث ونوع المحتوى المناسب. المخاطرة مطلوبة دائماً، ولكن ليس بشكلها المادي، فعندما نتحدث عن واقع سياسي واجتماعي يفرض أيديولوجيا تحيلها الدراما إلى موضوعية شائكة ومعقدة، لا يفكك أوصالها ويعيد تركيبها ويوحدها سوى كاتب يصوغ المشهد العام والخاص بقلم واحد متعدد اللهجات.

في نهاية ثلاثية "الولادة من الخاصرة"، تشبث الكاتب السوري سامر رضوان بالتآخي كطوق للنجاة، بعدما غاص عميقًا في حكاياته وشخصياته. أسئلة وأجوبة قد لا تختصر المشهد السوري بكليته، لكنها محاولة لفهم العقلية السائدة في المجتمع السوري بمختلف أشكالها، بحسناتها وسيئاتها، في ظل حرب دموية لا تزال دائرة حتى اللحظة.

في هذا العمل، لم يستعن رضوان بالمشهد الحقيقي ليسطّر شكل الحرب والموت من منظور المتقاتلين، بل استعان باللغة، حيث الكلمة تعادل الوعي وترفع عنها حجة اللوم، فيصبح الحل عبئًا على الدراما من جهة، ومتنفسًا للمشاهد وللقاتل والثائر والمستضعف من جهة أخرى.

هذه التركيبة القصصية في نقلها للمشهد السوري في سنوات الحرب الأولى، لم تسعف القاتل لينأى عن ظلمه، ولم تعط للمستضعفين حقوقهم، فاكتفى المسلسل بالصورة لتختصر آلام الجميع، إذ إن حجم الحرب لا يقاس بحجم الدراما، وإن نجحت الأخيرة جماهيريًا.

في السنة الثامنة من الحرب السورية، يعود رضوان مجددًا في مسلسل "دقيقة صمت"، من تأليفه وإخراج شوقي الماجري. الرؤية هنا تتغير، حبكة محكمة وذكية تعيدنا إلى ذكريات العمل السابق وتتفوق عليه هذه المرة. قصص تصاعدية شائكة ومشوقة اعتاد رضوان أن يضع المشاهد من خلالها في حالة ترقب ويجره إلى فخ الانتظار، من خلال شخصيات العمل التي منحها أبعادًا جديدة تحوم في فلك القديم، ولكن بذكاء الحبكة المقدمة؛ أصبحت علامة جديدة تضاف إليها، فتميزت مرة أخرى.

نلاحظ أن رضوان لم يتخذ من بيئة الحرب مكانًا لشخوصه مثلما فعل سابقًا، هو يعلم حجمها ومدى صعوبة إرضاء الأطراف المتصارعة والوقوف في الوسط، بل يعلم أيضًا أن ثقل الحرب وخسائرها لا تتسع لها الدراما ليعود إليها بطروحات أخرى، وإلا أصبحت مزايدة درامية وتغليفًا غير شريف للمشكلة، حتى وإن كان جليًا ملاءمة القصة لعقلية النظام ورقابته في عدد من القضايا، فليس هناك من يقدر على طرح حلول تناسب جميع الأطراف، لذلك ارتأى في عمله الجديد أن يعود إلى الوراء، قبل عام 2011 بسنة واحدة، حيث الثورة السورية لم تكن قد انطلقت بعد.

هناك، يستطيع رضوان الخوض مجددًا في الواقع السوري، والغوص في عمق الفساد بين أروقة النظام السياسي الحاكم من جهة، وتحرير بعض الشخصيات والمشاهد المكررة بين هذين العملين من جهة أخرى، مع الحفاظ على شكل الشارع بتفاصيله وبساطته وعفويته.

مع انطلاق الحلقة الأولى من المسلسل، نجحت القصة (وإن لم تكن مقنعة بشكل كاف) في التطور والصعود بشكل متماسك. ملفات سرية قديمة تدين بعض الشخصيات من رموز الدولة، للتغاضي عنها يتم استغلال شخصين محكومين بالإعدام؛ الأول سوري (عابد فهد بدور أمير ناصر)، والثاني لبناني (فادي أبو سمرا بدور أدهم منصور)، لتنفيذ حكم الإعدام فيهما، ولكن أحداثًا غريبة تغير من مجريات المحاكمة بشكل جنوني؛ ضباط متواطئون يعملون على تهريب المحكومَين خارج السجن من أجل قتلهما بعيدًا عن قبضة مدير السجن والمحكمة، واستبدالهما بسجينين آخرين هما المعنيان بتلك الملفات، يتم إعدامهما بعد توريط قائد السجن بالأمر، بعد اعتقاده أن حكم الإعدام قد تم قبل أن يعلم بفرار السجينين اللذين يحتميان لاحقًا عند أبو العزم (فادي صبيح).

قصة غريبة ومشوقة، ولكن ما يهم ذكاء رضوان وقدرته على تغيير التركيبة النفسية لبعض الشخصيات ذاتها التي كانت في "ولادة من الخاصرة"، والتعامل معها بحرفية ومهارة. فشخصية (رؤوف) الضابط المتغطرس، الذي يمثّل ذراع الدولة، المكروه من زملائه وأقاربه وعائلته، التي لعبها فهد سابقًا، أصبح روبن هود، المحكوم بالإعدام على مشنقة الإنسانية، محبوبًا من الغرباء قبل الأصدقاء، لكن مع الحفاظ على بعض النقاط المشتركة بين الشخصيتين، فكلاهما يحملان حس القيادة والذكاء.
شخصية (أبو مقداد) التي أداها صبيح، هي الأخرى مكروهة، شخصية انتهازية واستغلالية، تصبح رمزَا للوفاء والشهامة بشخصية (أبو العزم) الجديدة. براعة الممثل وخبرته هنا تتماشى مع حنكة الكاتب وتصوره لأبعاد جديدة للشخصيات فكسرت قالبها السابق وفرضت قبولها بشكل خاطف لدى الجمهور.

تتصاعد وتيرة الأحداث، ووفق المثل القائل "عدو عدوي صديقي"، ليدخل الممثل السوري خالد القيش بدور (العميد عصام) ويجسد هذه المقولة ويعطي للحكاية شكلًا أكثر إثارة بأدائه ودوره المتقن. فقصة ضابط أراد التخلص من قضية تسيء إلى سمعته من خلال مسجون حكم عليه الموت فنجا، ليكون الأخير ملاذه الوحيد أمام أنياب زملائه من الضباط، هي حبكة مثالية وتشي بنضج كاتبنا وتجعلنا نشيد بأفكاره وخياله المنطقي في سرد الأحداث وتطورها، وقد تغنينا أحيانا عن المشهد أو الصورة التي لا غبار عليها بكاميرا مخرج العمل الماجري، مثلما كنا نفعل قديمًا مع "حكم العدالة" حيث متعة الاستماع من دون المشاهدة.

المساهمون