أفلام "كانّ 2019": شقاء مدنٍ وأناسٍ

أفلام "كانّ 2019": شقاء مدنٍ وأناسٍ

20 مايو 2019
بانديراس في "ألم ومجد": حكاية مخرج (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
تتواصل عروض المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14-25 مايو/أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، لكن من دون عرض أفلام كوينتن تارانتينو وتيرنس ماليك وإيليا سليمان والأخوين داردن وعبد اللطيف كشيش وكزافيه دولان وماركو بيلّوكيو. مع ذلك، طغت حرارة الأفلام المعروضة، لغاية الآن، على برودة الأجواء الماطرة في المدينة الجنوبية الفرنسية هذا العام. 

افتُتحت المسابقة الرسمية بـ"الموتى لا يموتون" للأميركي جيم جارموش. هناك "البؤساء"، أول روائي طويل للفرنسي لادج لي. فقط العنوان يُحيل إلى رواية "البؤساء" للأديب الفرنسي فيكتور هوغو، بينما أحداثه تدور في فرنسا المعاصرة، بتناولها مشاكل المهاجرين الأفارقة في غيتواتهم المغلقة، ذات النمط الانعزالي والقوانين الخاصة، وهي شبه منفصلة عن الدولة الفرنسية.

لا يسلّط الفيلمُ الضوءَ على قضية الهجرة المعاصرة إلى أوروبا، تحديدًا، وإن يهدف أساسًا إلى تبيان تبعات الهجرات، وسط سياق التطرّف الديني والاجتماعي الغارق فيه أفرادها، بالتعمّق في رصد كيفية عيش الأفارقة المسلمين. كما يعاين علاقةً شديدة الالتباس، وشائكة جدًا، بين طريقة تعامل الدولة الفرنسية، ممثّلة برجال الشرطة، وأفراد تلك المجتمعات. علاقة يشوبها فساد وعنصرية وتواطؤ وعنف متبادل، وطبعًا خروج على القانون، في ظلّ قانون خاص غير مكتوب، يحرص الطرفان على عدم اختراقه. لا يُدين لادج لي أفراد تلك المجتمعات، إنْ من ناحية التطرّف الديني أو الانعزال أو اللجوء إلى العنف، قدر ما يُبيّن أنّ الأمر متبادل بينهم وبين رجال الشرطة، وأنّ هناك طريقة خاطئة جدًا لمُعالجة الأمور، تؤدّي حتمًا إلى ما لا تُحمَد عواقبه.

لـ"البؤساء" أهمية كبيرة، بالإضافة إلى عمقٍ وفنيّةٍ. كما أنه رسالة تحذير.

إلى ذلك، يُعتَبَر "بوكاراو" للبرازيليين كليبير ميندونزا فيلو وجوليانو دورنيليس من الأفلام المميزة فنيًا. فيه، تعود الشابّة تيريزا (باربرا كولين)، دارسة الإخراج السينمائي، إلى بلدتها المعزولة "بوكاراو"، لوداع جدّتها المتوفّاة مؤخرًا. تبدأ بتلمّس أحوال هذا المجتمع المنغلق، قليل السكان، الذي يعاني ندرة مياه، بعد أن تركته فترة طويلة. لا يحدث الكثير في البلدة الهادئة، باستثناء الانتخابات، ورغبة أحد المرشحين في الحصول على أصوات أهل البلدة، مُقدِّمًا لهم وعودًا زائفة بتحسين مستويات المعيشة، وقبل كلّ شيء حلّ مشكلة المياه.

تدريجيًا، تتعقّد الأمور إلى درجة دموية، إذْ يستشعر السكان أمورًا غريبة تحدث حولهم، إذْ تقع جرائم قتل مجانيّ لبعض السكان، من دون معرفة الفاعل. هناك أفراد ينتمون إلى جنسيات متعدّدة، لا شهوة لهم إلاّ قنص الناس، للاستمتاع بأعمالِ قتلٍ مجانية، وإطلاق الرصاص، ما يعكس سلوكًا غريبًا وغير مُبرَّر. لاحقًا، يتبيّن أن هدف المجموعة الدموية تلك اصطياد أهل البلدة، وتصفيتهم تدريجيًا، على نحو غامض.

اشتهرت "بوكاراو" بكفاحها الثوري في تاريخ البرازيل، الذي يفتخر سكاّنها به. لكن جرائم القتل تدفعهم، بعد ازدياد وتيرتها، إلى الاستنفار والدفاع عن أنفسهم، ضد حفنة موتورين، يجهلونهم ولا يعرفون دوافعهم. وسط سياق دموي هائل، وقتلى ذوي أعمار وأجناس مختلفة، وطلقات رصاص لا تهدأ، تنجح البلدة أخيرًا في التصدّي لهم وردعهم، وتبيان السرّ الكامن وراء تلك الأحداث، ومسبّباتها.

في محاولة اقتناص "سعفة ذهبية" ثالثة تضاف إلى رصيده، بعد حصوله على اثنتين سابقتين عن "الريح التي تهزّ الشعير" (2006) و"أنا دانيال بليك" (2016)، يشترك البريطاني كِنْ لوتش، للمرّة 14، في المسابقة الرسمية، بـ"عذرًا، لم نجدك"، الذي يعود به إلى أفلامه الاجتماعية السابقة، وطريقته الأثيرة في المعالجة، حيث الالتزام بقضايا الإنسان، في ظلّ ما يعانيه أفراد المجتمع البريطاني وطبقاته الوسطى من انسحاقٍ غير آدميّ، في سياق رأسماليّ لا يرحم.

لكن لوتش خيّب آمال من اعتبروا أن جديده سيكون مُكرّرًا ومملاً، وسيخلو من كلّ فنيّة وتشويق، إذ لم يعد لديه، بالنسبة إليهم، ما يقوله أو يضيفه، فنيًا وفكريًا. فـ"عذرًا، لم نجدك" خالف التوقّعات كلّها، وأثبت مخرجه أنه لا يزال قادرًا على الضرب الموجع حدّ الإيلام، وتوجيه صفعات لا تُنسى، والتحذير من إهدارٍ لا يرحم لكرامة الإنسان. هذا كلّه برغبة في توفير أدنى متطلّبات العيش الكريم، في إحدى الدول الكبرى، التي لها أقدم وأرسخ وأقوى الاقتصادات في العالم.

في هذه الدراما الاجتماعية (سيناريو بول لافيرتي) يحاول ريكي تورنر (كريس هيتشِن) وزوجته آبي (ديبي هانيوود) تربية ابنيهما سيباستيان (ريس ستون) وليزا (كاتي بروكتور)، رغم صعابٍ مادية يواجهانها يوميًا، ويعجزان عن التغلّب عليها.

من بين الحالمين، منذ أعوام بعيدة، بنيل أول "سعفة ذهبية"، يُقدِّم الإسباني بدرو ألمودوفار جديده، "ألم ومجد". فهو لم يحصل من مهرجان "كانّ" إلا على جائزة الإخراج عن "كلّ شيء عن أمّي" (1999)، وجائزتي السيناريو والتمثيل النسائي (الممثلات جميعهنّ) عن "فولفير" (2006).

يسرد "ألم ومجد" (سيناريو ألمودوفار)، الذي يُعتبر السيرة الذاتية للمخرج، قصّة حياة المخرج السينمائي سلفادور مايو (أنتونيو بانديراس)، الذي يتذكّر ـ بين حين وآخر، وهو بات فوق الخمسين من عمره ـ طفولته ونشأته، وكيف درس وتعلّم وأحبّ الفن، تارة عبر تداعٍ حرّ للذكريات والأحلام، وتارة أخرى عبر سيناريو يكتب شذرات منه، آملاً في تنفيذه يومًا ما. يركّز الفيلم كثيرًا على دور والدته خاسينتا (بينيلوبي كروز) في مرحلة شبابها، عندما كان المخرج طفلاً، ويُبرز الغياب الواضح للأبّ في حياته.

إخراجيًا، يصعب أن تغفل العين عن البصمات الواضحة لألمودوفار، المتكرّرة دائمًا في أفلامه كلّها: الألوان والأبطال ومحورية الفنّ والمثليّة الجنسية، بالإضافة إلى الدور البارز جدًا للمونتاج، خاصة في فيلم كهذا، يعتمد أساسًا على تقنية الـ"فلاش باك" (العودة بالزمن إلى الخلف). تنفيذه جيد جدًا، وهو من الفئة نفسها للأفلام الجيدة لألمودفار، وإنْ لم يأتِ بجديد. لذا، يبدو صعبًا على الفيلم أن ينافس أفلامًا أخرى على جوائز المسابقة، مع التنبّه إلى تمكّن المخرج من الابتعاد به عن "ثمانية ونصف" (1963) للإيطالي فيدريكو فيلّيني، الذي سرد فيه سيرته الذاتية، انطلاقًا من الحبكة نفسها تقريبًا.

المساهمون