المسحراتي... تقليدٌ لم يمحه الزمن

المسحراتي... تقليدٌ لم يمحه الزمن

13 مايو 2019
رحلة المسحراتي تبدأ بعد المغرب بساعتين (Getty)
+ الخط -
مرت من رمضان عدة ليالٍ، والناس في مصر، باستثناء الموظفين الحكوميين، لا ينامون الليل، فالجميع يقظان في البيوت أمام الشاشات أو على المقاهي أو في الأسواق؛ وبالرغم من ذلك لا يخلو حيٌّ واحدٍ من مسحراتي خاص به، يبدأ رحلته قبل الفجر بأكثر من ساعتين بصحبة طبلته التقليدية، وفي أحيان كثيرة يلحقه عشرات الصبيان عبر الشوارع والحواري والأزقة، يرددون خلفه الأغاني وينادون على الناس من أجل تنبيههم إلى وقت السحور.

والواقع أن الأمر صار فولكلورياً وفنياً أكثر منه وظيفة فاعلة، فالناس لم يعودوا يحتاجون إلى المسحراتي لأنهم لم يعودوا ينامون بعد العشاء والتراويح كما كان حال أجدادهم، وإنما يحتاجون فقط إلى من يذكرهم بأن لهذا الشهر نكهة تختلف عن باقي الشهور.

ومن تقاليد التسحير أن لكل مسحراتي منطقة نفوذ لا يتخطاها زميله في هذه المهنة المؤقتة، لأنه سوف يحصل من أبناء المنطقة على أجر تسحيره ومقابل تسليتهم طوال الشهر، إذْ يمر على البيوت ليلة العيد وينادي على سكانها، وخاصة الأطفال، فيحصل على أجره وفق تقدير الناس مع تهنئتهم له بالعيد. وقديماً كانت تحدث مشاجرات بين مسحراتي وآخر يتعدى على منطقة نفوذ زميله، فيقال في المثل: "إنت هتطبل في المطبل؟!"، أي أن هذه المنطقة تم التطبيل وتسحير الناس فيها فلا داعي لإعادة التطبيل.

يقال إنّ عنبسة بن إسحق هو أول مسحراتي أيقظ الناس على إيقاع الطبلة حين جاء إلى مصر، فكان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور، وقد أصبح عنبسة والياً على مصر سنة 238 هـ، وقال عنه ابن حزم في "جمهرة أنساب العرب": "كان من أعدل الناس، يُتَّهم بمذهب الخوارج لشدةِ عدْلِهِ وتحريه للحق، وهو آخر عربي ولي مصر، وآخر أمير صلى بالناس وخطب". وقديماً كان تسحير القرية من مهمات العمدة التي كان يقوم بها بنفسه، أو يندب بعضاً من الخفراء ويقسمهم على المناطق ليقوموا بإيقاظ الناس قبل الفجر في رمضان. وفي أيام الفاطميين؛ عين الخلفاء بعض الجنود من أجل تسحير الناس والمرور في الشوارع، وكان الواحد فيهم يحمل عصا يدق بها على الأبواب عدة نقرات ثم يقول: "أيها الناس تسحروا"، بعدها تحولت العصا إلى طبلة صغيرة في يد المسحراتي تسمى "بازة". وحين كادت مهنة المسحراتي تختفي أيام المماليك؛ قام الظاهر بيبرس بإحيائها، فصار المسحراتي يخرج في موكب فني من الأطفال والصبيان لتأدية المهمة. الرحالة الذين قدموا إلى مصر في رمضان تحدثوا عن المسحراتي؛ مثل "ابن الحاج" الرحالة المغربي الذي زار مصر في أيام الناصر محمد بن قلاوون (1285-1341م) فقال عن المسحراتي إنه تقليد خارج عن الشرع لا تعرفه بلاده، وإن المسحراتي يغني وينادي في شوارع القاهرة، أما في الإسكندرية، فيطوف ويدقّ على البيوت بعصاه دقات منتظمة، وهو يردد الأدعية أو يتغنّى بمعجزات الرسول وغزواته.

ويقول الكاتب فؤاد مرسي في كتابه "معجم رمضان" إن فن التسحير قد شهد بعض النساء اللواتي مارسن هذه المهنة، وذلك في أيام الدولة الطولونية (868-905م)، فكانت بعض النساء ذوات الصوت الجميل يقمن بالتسحير والإنشاد من وراء النوافذ، إذ يتوجهن بالتسحير للنساء فقط.

ويعد المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين (1801-1876م) من أكثر الرحالة حديثاً عن المسحراتي المصري في بدايات القرن التاسع عشر، ومما ذكره أن رحلة المسحراتي تبدأ بعد المغرب بساعتين، وأن لكل منطقة مسحراتياً خاصاً بها، يمسك عصا بيده اليمنى وطبلة بيده اليسرى، وأنه كان يقف بباب الأغنياء دون الفقراء، يطرق أبوابهم بالعصا ثلاث نقرات، وينادي عليهم بأسمائهم، وأنه لا يذكر من أسماء الإناث سوى الفتيات الصغيرات اللواتي لم يتزوجن قائلاً: "أسعد الله لياليك يا ست العرايس"، وغير ذلك من أوصاف.

دلالات

المساهمون