المقدمات الموسيقية الطويلة... لزوم ما لا يلزم

المقدمات الموسيقية الطويلة... لزوم ما لا يلزم

09 ابريل 2019
(فرانس برس)
+ الخط -
كرست المقدمات الموسيقية الطويلة في مصر نزعات الملحنين في خوض التأليف الموسيقي، ومع الوقت أصبحت ثرثرة ملفقة بمجموعة من الألحان المختلفة. منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، بدأت تظهر ملامح الاعتماد على الجمل الموسيقية، أو ما سيتم اصطلاح عليها لازمة موسيقية، إذ تكون لحناً مختلفاً عن لحن المذهب. مثلاً، قامت الجمل الموسيقية لأغاني سيد درويش على لحن المذهب. وكان العرف في الغناء العربي، أن يقوم العازفون بالتمهيد للغناء من خلال دولاب من نفس مقام الأغنية يحفظونه.

وفي هذا المخاض، ركّز كبار الملحنين في مصر على صياغة اللازمة الموسيقية، وتطورت بنيتها، كما استعانوا بموزعين موسيقيين أوروبيين ليضفوا على بعض الجمل توزيعاً هارمونياً. ومع الوقت، توسعت الفرقة الموسيقية الشرقية. عدا أن الشيخ زكريا أحمد، برر عدم إيلائه اهتماماً بالجمل الموسيقية قائلاً: "في الأغنية اللازمة مالهاش لازمة"؛ وهي وإن عبرت عن وجهة نظر تقليدية، فزكريا وضع جل اهتمامه بالتركيب اللحني. لكنها، من جانب آخر، لا تخلو من الصواب، خصوصاً عندما أصبحت الأغاني تهذر بمقدمات طويلة، كما لو أنّها تلفيق مجموعة ألحان غير متسقة ولا تشكل نسيجاً واحداً.

في ثلاثينيات القرن العشرين، ظهرت تجارب ومحاولات التأليف للموسيقى خارج الأغاني، سواء من القصبجي أو عبد الوهاب و السنباطي، والأخير لديه أكثر من 30 مقطوعة لم يتبق منها سوى أعمال معدودة، أشهرها في قالب اللونغا. كرّس السنباطي اهتمامه في صياغة الجمل الموسيقية ضمن ألحانه لأم كلثوم. على سبيل المثال، سيضيف لاحقاً جملة موسيقية من مقطوعة موسيقية مجهولة له على مقام النهاوند، لأغنية أم كلثوم، "اذكريني"، والملحنة من مقام النكريز، القريب من النهاوند. لكن هذا التجريب سيستمر مع عبد الوهاب إضافة إلى تأليفه المقدمات الطويلة للأغاني، مع أنه لم يضف الكثير في هذا السياق عدا بعض الجمل اللافتة في صياغتها الجذابة.

وضع محمد القصبجي أول مقدمة موسيقية عربية طويلة في أغنية "رق الحبيب" عام 1942. لكن، بعد أن قررت أم كلثوم إلغاء تلك المقدمة، ظهر لاحقاً كعمل موسيقي منفرد بعنوان "ذكرياتي". واعتماد القصبجي على قالب موسيقي، كان يحد من الفوضى التي آلت إليها المقدمات الموسيقية، فهو اعتمد على نسيج موحد، إذ احتفظ بمقام الأغنية النهاوند، نستثني منه خروجاً بسيطاً إلى مقام البيات.

ومع أن الملحنين لم يسيروا على نهج القصبجي في بناء المقدمة الموسيقية، بمن فيهم عبد الوهاب والسنباطي، في الاعتماد على القالب، إلا أنهم التزموا ببنية لحنية ومقامية متزنة في وحدتها، إذ اعتمدت على مدخل افتتاحي، سنجده ملحمياً لدى عبد الوهاب، أو طقوسياً كما لدى السنباطي، ثم جملة لحنية طويلة بعض الشيء. شهدت ألحان عبد الوهاب مجموعة من أجمل المقدمات اللحنية في الموسيقى العربية، مثل "الجندول"، و"النهر الخالد" و"أنشودة الفن".

واشتدت المنافسة بينه وبين السنباطي، الذي وضع مجموعة من أروع المقدمات اللحنية أيضاً، وتحديداً في ألحانه لأم كلثوم، منها "ياللي كان يشجيك أنيني" رغم مازوشية كلماتها، وأيضاً "هجرتك" و"جددت حبك ليه". ومع أنه كان أقل مغامرة في انفتاحه على الموسيقى الغربية، فقد ظهر متأثراً أيضاً في بعض مضامينه اللحنية بالاتجاه الرومانتيكي الغربي. لاحقاً، سيظهر الكثير من البدع، إذ أصبح الملحن يستعرض قدراته أكثر في توليف أكبر عدد من الألحان في المقدمة الموسيقية. كان منتصف الستينيات منعطفاً، فالمسار الذي نتج منه وجود الأغنية طويلة المقدمة على المسرح، تطور ليتّخذ هذا الملمح الاستعراضي، إلى حد أن بعض المقدمات تنتهي بقفلة، لتحتفي بتصفيق الجمهور، قبل أن يبدأ الغناء.

وبالنسبة إلى أم كلثوم، ظهرت أغنية "فات الميعاد" عام 1967 (لحّنها بليغ حمدي) كأول مثال للمقدمات الموسيقية الطويلة غير المتجانسة، فهي تبدأ بجملة راقصة من الحجاز، وليس مقام الأغنية (راحة الأرواح)، فتضمنت الأغنية أربع مقامات وكل جملة لحنية تسير في مزاج ومقام مختلف.
قبلها بعام، بدأ عبد الوهاب مقدمة لحن "فكروني" على مقام النهاوند وانعطف إلى مقام الأغنية (مقام الراست) الذي سيبدأ منه الغناء في القسم الثاني من لحن المقدمة. التزم عبد الوهاب في أول ألحانه الثلاثة لأم كلثوم بالنسيج الواحد، وإن اعتمد على البهرجة الموسيقية بدرجة رئيسية، مع توظيف الغيتار والجمل الراقصة. في النصف الثاني من الستينيات، انتعش هذا المسار الموسيقي وكانت المقدمات الطويلة مطلباً احتفالياً لدى الجمهور. ربما هذا النوع من المقدمات بملامحه غير المتجانسة، ابتدعه فريد الأطرش في أغنية "لحن الخلود" التي وضعها لفيلم يحمل الاسم نفسه عام 1952، مع فارق أنه تضمن شكلاً أوركسترالياً غربياً، بتوزيعاته المهيبة مع تبادل النفخيات والوتريات أدوار العزف، ومع بداية أوركسترالية من مقام النهاوند تنعطف فجأة ومن دون اتساق إلى جملة موسيقية من مقام البيات، وتظهر الفرقة الشرقية يتقدمها القانون والدف، وكأننا ننتقل إلى ملمح مختلف كلياً في مزاج الأغنية ومضمونها. ومع أن جمالية الأغنية الشرقية تقوم على التنقلات المقامية، إلا أنها أصبحت مجالاً للتلفيق والعشوائية في العناصر الموسيقية المختلفة، بمعنى مجاورة عنصر موسيقي لآخر من دون وثاق في المضمون اللحني.

هذا المسار أصبح أكثر ابتذالاً في السبعينيات؛ وبدأ هذا الطابع يظهر في أغاني أم كلثوم الأخيرة، وتحديداً ألحان محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي. كيف يمكن تبرير وجود ضربات الغيتار الراقصة على مقام النكريز، في أغنية "الحب كله" التي تنتقل إلى جو طربي من مقام الراست؟ أصبحت الأغنية الطويلة مجموعة أغانٍ مختلفة، أو ألحاناً مختلفة مركبة في وشاح مستفز الألوان، حدد شكل الفوضى والذائقة العربية. وفي "أي دمعة حزن لا"، يظهر المزمار البلدي بلحن راقص وشعبي للغاية، يتبعه بعد فاصل منفرد للغيتار مقطع غربي على آلة الساكسفون وبطابع أميركي. ورغم أن السنباطي سيحافظ على أسلوبه اللحني، إنما فرضت عليه المنافسة إضفاء بعض الملامح الجديدة في التلحين. فهو سيوظف الأورغ الكهربائي عام 1969 في لحن "أقبل الليل" لأم كلثوم، وإن بطابعه. لكن تضاؤل اعتماد أم كلثوم على ألحانه مع نهاية الستينيات وأول السبعينيات، سيجعله يعتمد في مقدمته اللحنية لأغنية "من أجل عينيك عشقت الهوى" بعض تلك الملامح، بدءاً من استخدام الآلات، إذ يفتتح المقدمة بالأكورديون من مقام البيات، ثم تقاسيم على الغيتار بالنهاوند، وجملة غريبة عن ألحان السنباطي لما فيها من رقص، وربما لا تتناسب مع طابع اللحن الطربي للأغنية. مع هذا، لم يبالغ في التعدد المقامي أو اللحني للمقدمة.

لا يقتصر الأمر على ألحان بليغ أو عبد الوهاب، إذ دخل هذا المضمار ملحنون مثل الموجي، وأيضاً ملحنون أقل "أهمية" وقتها. وكان السؤال دائماً: ما الداعي للمقدمات الموسيقية الطويلة؟ مع أنها ظلت محل احتفاء جماهيري، ففيها بعض الملامح الجميلة، والكثير من التلفيق.

المساهمون