فيلم "المرأة غير المرئية"... مداخلة جديدة من جامعة هارفارد

فيلم "المرأة غير المرئية"... مداخلة جديدة من جامعة هارفارد

07 مارس 2019
فيليستي جونز في دور المرأة غير المرئية (فيسبوك)
+ الخط -
بالنسبة لآخرين فإن قصة عشق سرية خارج إطار الزوجية وقع فيها الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز (1812- 1870)، مُغرية، وتستحق أن يرويها فيلم. إنه ألمع اسم بين كتاب الحقبة الفيكتورية في القرن التاسع عشر.

مواطنه الممثل رالف فاينس، مهتم بالجانب الآخر لديكنز، إلا أن سيناريو أبي مورغان، قدم له الصنارة حسب وصفه. إنها إلين تيرنان، (الممثلة فيليستي جونز) الشابة غير المرئية، العشيقة السرية طوال 12 عاماً، الملقبة "نيللي".

 نيللي الصنارة التي سيعلق بخطافها الكنز السينمائي، فكان الفيلم فيلمَها في عام 2013، وحمل عنوانها "المرأة غير المرئية" (The Invisible Woman).

هي التي ظل ديكنز يتسلل إليها من وراء المجتمع، متلفتاً خلفه، حتى لا تتضرر سمعته الذهبية، المحترمة من قبل القراء الذين ينتظرون الجريدة، ليقرأوا الحلقة المقبلة من روايته. حتى الملكة فيكتوريا المعجبة بكتابته تنتظر هي الأخرى ما يخبئ الروائي من أحداث، ومصائر.

حين اندلع العشق عام 1857 كان عمر نيللي ثمانية عشر عاماً وديكنز خمسة وأربعين.

غير أن هناك امرأة مرئية، لأنها علنية، وهي كاثرين، (الممثلة جوانا سكانلان)، ابنة مدير ديكنز، حين كان صحافياً ناشئاً، ثم زوجته لاثنين وعشرين عاماً منذ عام 1836، وأم لعشرة أبناء من صلبه (إضافة لإجهاضين)، وأخيراً، امرأة مهجورة في إحدى ضواحي لندن منذ عام 1858.

وفي الفيلم كانت زوجة ديكنز، على نحو ما تعطي الشرعية للعشيقة، فهي مربية، مفرطة السمنة، سطحية، لا لغة مشتركة مع زوجها، مقابل شابة لطيفة الجمال، طامحة لتمثيل أعمال ديكنز على المسرح، ومعذبة في عشقها، راضية بعتمتها في بيت استأجره لها ديكنز بعيداً عن الأنظار، يزورها مرة أو مرتين في الأسبوع. كان يفتنه الوصول إليها في العتمة، سرّاً، بعيداً عن المجتمع الذي أغدق عليه المال والرفعة، مقابل أن يظل في إطاره الذهبي.

نيللي، وقعت في عشق النجم، وهو وقع في عشق جمال طازج متفتح. إن العشيقة لا تظهر في الفيلم مادة لغزل الكاتب، بل شريكة في روحه الإبداعية، وهي التي تشير عليه بألا يغير نهاية رواية "الآمال الكبرى". هي ليست محررة في دار نشر، بل حورية خرجت من البحر، ووحدها القادرة على أن تقول بلغة الحوريات ما لن يفهمه سوى رجلها السرّي.

الحقيقة في معارك القلوب، لا يمكن لأحد الادعاء بأنه قبض عليها بيده. والفيلم السينمائي يأخذ ذروة متوترة ويشتغل عليها، ولم يشغل نفسه بتاريخ كاثرين وهي ابنة طبقة وسطى متعلمة، ولها تجربة في التمثيل، وأصدرت كتاباً، وجالت مع زوجها في رحلات سفر بعيدة وسعيدة.

أغلب سنوات الزواج كانت كاثرين إما حبلى أو مجهضة، حتى قيل أنها السبب في نوبات اكتئاب لحقت بها، وصولاً إلى بدانة، حرص الفيلم على التركيز عليها. المشهد الوحيد العاري هو للزوجة، حين يفتح الزوج الباب فيجدها بلحمها المترهل طبقات عجين فوق بعضها، وفائضة عن جانبيها.

لكن جامعة هارفارد الأميركية تملك تعديلاً أخلاقياً على الرواية، لن يكون مريحاً لتشارلز ديكنز ومريديه.

رالف فاينس مخرجاً وممثلاً في الفيلم (فيسبوك)

فقبل أسبوعين، نشر البروفيسور جون بووين من جامعة يورك البريطانية خلاصته، بعد أن فحص 98 رسالة تحتفظ بها جامعة هارفارد، كُشف جزء منها عن محاولة تشارلز ديكنز وضع زوجته في مصحة الأمراض العقلية.

ويبدي بويين سخطه على ديكنز، وإعجابه بالطبيب توماس هارينغتون توك، المشرف على المصحة الذي وقف في وجهه، وقال له إن زوجته لن تدخل المصحة، لأنها لا تعاني أي مشكلة عقلية. ولهذا بعد أن كان ديكنز يحترم الطبيب أصبح يصفه بـ"الحمار الطبي".

وهذه ليست المداخلة الأولى في سيرة ديكنز، من قبل ذوي القربى ومذكراتهم، وأصدقاء ذوي القربى وأصدقاء أصدقائهم، والأكاديميين الذين ينكبون على النصوص ليروا علاقة الشخصيات الروائية بالحقيقية.

فقد انطلقت الشائعات حول علاقة العشق مبكراً، الأمر الذي حسمه ديكنز بالنفي عبر إعلان رسمي في جريدة التايمز، وصولاً إلى ثلاثينيات القرن الماضي حين نشر كتاب "ديكنز وابنته" للكاتبة غلاديس ستوري.

انقسمت الآراء بشأن الكتاب بين مدافع عن صورة ديكنز ومشكك في أهلية العشيقة وأهميتها، وبين من يدينه ويتعاطف مع أسرة ديكنز، خصوصاً أن كيت، ابنته، هي التي فتحت قلبها وباحت للكاتبة بتفاصيل ما جرى. كيت توفيت 1929.

وحين اختار الفيلم منطقة للنبش، مغرية أكثر، وجد أنها المنطقة التي ستكون فيها امرأة مجهولة، أو للدقة متجاهلة، لا تعبر علناً من فوق جسر ديكنز كحال زوجته وأولادها العشرة، بل عشيقة عليها أن تتسلل من تحت الجسر، وتتسلل وراءها الكاميرا.

امرأة لم تجرؤ على سرد حكايتها أمام العلن، حتى بعد أزيد من أربعين عاماً على رحيل ديكنز عام 1870. ثم تتزوج مدير مدرسة، سنوات طويلة، وتموت عام 1914، ليكتشف ابنها جيفري وشقيقته مذكراتها ورسائل ديكنز، وبالمرّة أنها كذبت على والدهما، فهي أكبر بعشر سنوات من العمر الذي أفصحت عنه. ابنها جيفري منع دخول أي كتاب لديكنز إلى البيت.

غالباً، يوفر الزواج أرضاً جاهزة، وشرعية للحراثة، لا للاكتشاف. ولهذا رأى صانع فيلم "المرأة غير المرئية" الصنارة في الانشقاق، والروح الشريد، والضياع المشتهى، وهذا ما توفره نيللي، بصرف النظر عن أي حكم أخلاقي يطاولها، ولا يفضّل عمارة بيروقراطية، مهددة بالسقوط منذ اكتمال بنائها، وهذا ما توفره كاثرين، بصرف النظر عن مظلوميتها.

من جانب آخر، تقدم رسائل هارفارد مداخلة جديدة، ليس من حق أحد مصادرتها.

الرسائل مرسلة من إدوارد دوتون كوك، إلى صديقه وزميله الصحافي ويليام موي توماس. إدوارد كان جاراً للزوجة المهجورة التي لازمها حتى وفاتها عام 1879، بعد تسع سنوات من رحيل ديكنز، وهو أيضاً صديق ابنها تشارلي، الذي بقي مع أمه، بينما سحب الأب التسعة الباقين إلى بيته.

والفيلم الروائي المستند إلى مذكرات ووثائق، اختار ما يريد. فإذا كانت المرأة غير مرئية بوصفها عشيقة سرية، فإن وجودها سينعدم من دون امرأة علنية. أي أن نيللي لن تكون من دون كاثرين.

وطوال الفيلم، تظهر الزوجة بكامل سُمنتها في مشاهد تجمعها مع عشيقة ولدت عام 1839، أي العام الذي ولدت فيه ابنتها البكر كيت.

لا يكتفي الفيلم بإظهار الزوجة في كل الحفلات العامة، كما لو أنها عبء، حتى إن ديكنز قبيل عرض مسرحي، يقدم أولاده العشرة للجميع باحتفال، ويكاد ينسى أمّهم. لا يكتفي بذلك، بل يدفع كاثرين إلى زيارة غريمتها، وإعطائها خاتماً هدية من ديكنز، جلبه البريد إلى منزل الزوجة بالخطأ.

أكثر من ذلك، يكشف ديكنز بانفعال أمام نيللي أنه هو الذي طلب من زوجته الذهاب بنفسها، لتسليم الخاتم إلى من تستحق، في مبالغة سينمائية، أقل مما ذكرته المذكرات.

كل هذا وغيره، سيزيد من عذاب إلين تيرنان (نيللي)، وهو ما يريده الفيلم. ستكون الزوجة العلنية في خدمة صورة مائية لنيللي التي جرّحها الحب، والتي عليها أن تكون في العتمة.

حادثة القطار الذي انقلب عن جسر تؤكد وحشة العشيقة، إذ كانت برفقة ديكنز حين سال دمها بين حطام القطار. وحين كان أمام جمهرة من المسعفين والمتطوعين قال عن عشيقته الجريحة إنها (مجرد) مسافرة تحتاج إلى إسعاف فوري، منكراً أنه يعرفها.

جوانا سكانلان في دور زوجة ديكنز (فيسبوك) 

كل من في الفيلم يخدمون على نحو ما صورة نيللي، بيد أن صنّاعه وهم يلجؤون إلى مذكرات ووثائق، يجرون عليها تعديلات سينمائية، دون أن يفرضوا علينا تجاهل ما في سير الآخرين من مطبّات فنية وأخلاقية.

ولأنه ديكنز، فإن برجه العالي الذي عمّره، يمجد من خلال نص يعبر الزمن. ولذلك من الصعب أن يرمى بالبيض الفاسد، لأنه هناك تشويشاً أخلاقياً يطاوله، بحسب ما نشر مؤخراً عنه.

فالبروفيسور الذي عاد من هارفارد حانقاً، يؤكد أن ديكنز تحدث غير مرة عن اضطراب عقلي عند زوجته، لكن الجديد أنه سعى فعلاً لإدخالها المصحّة.

ومن الجائز القول إن إطلاق أوصاف مقذعة بين أزواج تنهار علاقتهم، أمر متوقع، مع ملاحظة أن دخول كاثرين مصحة عقلية لم يسجل بوصفه واقعة طبية، وإنما جزء من الخصومة بين زوجين، تتناولها رسائل ومذكرات.

لا توجد رواية كاملة، حين يتعلق الأمر بالحب. حتى الذين وقعوا في الحب لا يعرفون متى وقعوا. ربما يحددون في لحظة عاصفة متى عليهم أن ينهضوا.

من حظ ديكنز أن له ابنة تصفه بـ"الشرير جداً" الذي تحبه أكثر من أي رجل في العالم، بسبب أخطائه.

ومن حظ نيللي أنها صنّارة مغرية لسينما القرن الحادي والعشرين، ومُغرٍ شقاؤها.

وعلى عكسهما، فإن كاثرين أقل حظاً، لا لشي، إلا لأن خسارتها الفادحة مكشوفة، واضحة، أمام كل عين، ودونما ظلال.

المساهمون