زياد الرحباني وأفلام رندة الشهّال: حماسة الاستعادة

زياد الرحباني وأفلام رندة الشهّال: حماسة الاستعادة

29 مارس 2019
رندة الشهّال: التقاط لحظات تاريخية (Getty)
+ الخط -
إنه فعلٌ نادرٌ. قليلون يهتمّون به، رغم الوفرة المهمّة للنتاج الفني، الجامع بين الصورة واللحن. إصدار أسطوانة مدمّجة تحتوي على موسيقى تصويرية لأفلامٍ عربية خطوة مطلوبة، تمامًا كإصدار سيناريوهات أفلام عربية في كتبٍ مستقلّة. 

هذا حاصلٌ في الغرب، المعنيّ بصناعة تواكب الفيلم وتُروِّج له وتُنبِّه إليه وتُوثِّقه بشتّى الوسائل الممكنة. فالغرب غير مكتفٍ بإنتاج الفيلم وعرضه في الصالات. اللاحق لهذين الإنتاج والعرض يوازيهما أهمية. إصدار كتب، وبينها النصوص الأصلية للسيناريوهات. إصدار أسطوانات مدمّجة خاصّة بالموسيقى، أو بالفيلم بحدّ ذاته، وفي الوقت نفسه بأشرطة إضافية تحتوي على مقابلات ولقطات محذوفة أثناء التوليف وغيرها.

الفعل النادر محصورٌ في الجغرافيا العربية. الصناعة المُرافقة للفيلم تتطلّب ميزانيات يحاول المعنيون به تخفيف ثقلها المادي. الاشتغالات الفنية المتعلّقة بالفيلم لن تكون أقلّ أهمية منه. للموسيقى دورٌ أساسيّ، وقليلون هم البارعون في ممارسته. لكن إصدار الموسيقى بشكلٍ مستقلّ عن الفيلم نادرٌ، وهذا مؤسف، مع أنّ الاهتمام بتلك الصناعة المرافقة للفيلم يزداد إيجابيةً عامًا تلو آخر. أما الكتب العربية، فقليلةٌ جدًا. خصوصًا تلك المتعلّقة بالحوارات الطويلة مع سينمائيين، أو بسيناريوهات.

الموسيقيّ والمسرحيّ اللبناني زياد الرحباني (1956) يُصدِر أسطوانة مدمّجة تحتوي على ألحانٍ موسيقية له يُنجزها لفيلمي "متحضّرات" و"طيارة من ورق"، للّبنانية الراحلة رندة الشهّال (1953 ـ 2008). هذا إنجاز يُضيف إلى الفيلمين المُنتجين عامي 1999 و2003. له في الثاني دورٌ تمثيلي أيضًا. لكن الموسيقى تبقى الأساس. وهي، إذْ تندرج في سياقات درامية تروي حكايات أناسٍ مُقيمين في الخيبة والقهر والألم والخوف والانسحاق والقدرة على التحدّي الدائم رغم إخفاقات عديدة، تُتيح للمُشاهد إضافةً جمالية توازن بين قسوة اللحظات الدرامية وبهاء النغم، المتمكِّن من إحالة اللحظات إلى مشهديّة تُكسِب المُشاهِد متعة إضافية رغم حساسية السرد ومناخه.



التجربة مطلوبة. التعاون السينمائيّ مع موسيقيين عرب أو فرق غنائية عربية يزداد فعالية، فلهؤلاء مشتركات مع هواجس سينمائيين معنيّين بوقائع العيش في الاضطراب اليومي العربي. للرحبانيّ اختبار التمثيل السينمائيّ أيضًا. هذا جزءٌ من حضوره الفني. لكن إصدار الإسطوانة، المعنونة بـ"موسيقى من أفلام رندة الشهّال صبّاغ"، يحثّ على استعادة الفيلمين، المصنوعين في لحظتين لبنانيتين مختلفتين: الأولى معنيّة بالتراكم المتنوّع لمخلّفات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، المعلّقة نهايتها الملتبسة؛ والثانية مهتمّة بمحاولة فهم الأبعاد المختلفة للفرد إزاء التقسيم الجغرافي والانفصال النفسيّ والاجتماعي لبيئة واحدة بين عدوّين.

لن يكون صائبًا اختزال مضموني "متحضّرات" و"طيّارة من ورق" بجُمل سريعة كهذه. فالأول، الغائص في أتون الحرب نفسها عبر نماذج بشرية مختلفة، مفتوحٌ على مواجع ونكبات وانكسارات، كما على سعي إلى تنفّس "طبيعي" وسط حرائق المدينة وانهياراتها؛ والثاني، السارد حكاية مُراهقة يُراد لها زواج مع قريبٍ مُقيم في الجزء المحتلّ من الجولان، يُفكِّك شيئًا من معالم بيئة وثقافتها، ومن ملامح جغرافيا منتفضة دائمًا على محتلّ يُمعن فيها كسرًا واضطهادًا، من دون أن ينال من ناسها والتزاماتهم ومواقفهم. وإذْ تبقى الحرب ماثلةً في نفوس وعقول وانفعالات لبنانية مختلفة، رغم مرور 29 عامًا على نهايتها المزعومة، فإن صدور الأسطوانة تلك، بما فيها من موسيقى خاصّة بـ"طيّارة من ورق"، قبيل وقتٍ قليل على الاعتراف الرسميّ للرئيس الأميركي دونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، يبدو كأنه رغبة، وإنْ غير واعية أو مقصودة، في التنبيه إلى معنى المرتفعات في الوجدان العربي، وإلى حساسية حضورها في الصراع المعطَّل بين "سورية الأسد" والاحتلال الإسرائيلي.

والأهمّ من هذا كلّه مرتبطٌ بالقيمة الفنية للموسيقى الرحبانية، التي يُستمع إليها الآن، فيُكتَشَف كم أنها راهنة وآنيّة، وكم أنها قادرةٌ دائمًا على إشعال حماسة المُشاهدة مجدّدًا، وحماسة الاستماع إليها أيضًا. وهذا، إنْ يكن مُعتادًا إزاء أعمال موسيقية ومسرحية كثيرة لزياد الرحباني، يظهر كنتاجٍ مُكمِّل لِمَا تحتويه الصورة السينمائية من خبريات ومناخ وأسئلة، ولِمَا يعتمل في النصّ من فضاء مفتوح على خيباتٍ ومآزق وآمالٍ، ولِمَا يتضمّنه الأداء التمثيلي من إمكانات عديدة لكشف البوح والانفعال في ذوات شخصيات مستلّة من واقع وتاريخ وتحوّلات.

وموسيقى زياد الرحبّاني، في الأسطوانة المدمّجة الصادرة مؤخّرًا، تنتعش أكثر فأكثر بفضل مسام النبض الحميم لشخصيات سينمائية، تعكس معالم اجتماع وسلوك وثقافة وتربية، وتحاول أن تبوح بشيءٍ من تأمّلات مخرجة لبنانية، ملتزمة قضايا الفرد وجماعته بحساسية إنسانية عميقة، وباشتغالٍ بصريّ لن تكون نتائجه كلّها متساوية، رغم أنها شهادات حيّة عن أزمنة وتفاصيل ومسارات ومصائر.

المساهمون