الجسد في السينما: صور الموجة الجديدة

الجسد في السينما: صور الموجة الجديدة

26 مارس 2019
من "لا دولتش فيتا" لـ فيلّيني (Imdb)
+ الخط -
"الجسد في السينما" موضوع جديد اختير مؤخّرًا لمناقشته في "مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الفنية والأدبية"، بالتنسيق مع "الجمعية المغربية لنقاد السينما" و"مركز الأبحاث الفنية والجمالية" في "جامعة الحسن الثاني" في الدار البيضاء، برئاسة الباحث السيميائي عبد اللطيف محفوظ، ومشاركة محمد مزيان ومبارك حسني وعبد العزيز عمراوي وعبد الله العالي معزوز وحمادي كيروم والسعيد لبيب، وغيرهم. هؤلاء جميعهم طرحوا مساءلاتهم للمفهوم، بحسب اشتغالات كلّ واحد منهم واختصاصه.

لا مجال لاستعراض دقيقٍ للمواقف والقضايا كلّها، لكن بعض العناوين يكفي لتبيان المطروح منها، الخاضع لتحليل مضامينها والتأمّل في المنطلقات الفكرية، كالتصوّر الفلسفي للجسد وتمثّلاته السيميائية في المدينة وعوالمها، من خلال أفلام مغربية معيّنة، مع التوقّف عند مفهوم الجسد وخطاباته في سينما الإيطالي بيار باولو بازوليني، بالإضافة إلى تجسيداته القبيحة أو الهجينة في أفلام إيرانية.

صورة في الأصل
تصعب مقاربة مفهوم الجسد في الصورة السينمائية، علمًا أن الجسد صورة في الأصل، كما ذهب إلى ذلك عبد الكبير الخطيبي. كما أن موضوع الجسد في السينما غير قابل لمنهج واحد يدّعي الإحاطة بعوالمه المتخيلة، بل يتطلّب تكاملاً في المناهج، باعتباره موضوعًا مُركّبًا، تتقاطع فيه الأنثروبولوجيا بالتاريخ، والفلسفة بالأدب، والمتخيّل مشترك واحد بينها. بالإضافة إلى ذلك، هناك صعوبة في تناول المفهوم بشكل عام داخل السينما، من دون مراعاة السياقين التاريخي والفني، اللذين ظهر فيهما. فالجسد في الفيلموغرافيا العربية مقموعٌ ومحتشمٌ وغير ملتحمٍ بالواقع ومتغيراته، فلم يتحقّق بذلك، بعد حداثته البصرية في الصورة السينمائية، وهذا عائدٌ في الأصل إلى الحيف والفقر، اللذين قوبل بهما المفهوم في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، وأيضًا بسبب طبيعة المجتمعات العربية، وما شهدته مؤخّرًا من تضخّم للدينيّ في حياتها اليومية.

هذا يُفسّر احتماء الباحثين في الندوة (وغيرهم من المنشغلين بالجسد) بالمفهوم نظريًا، خاصة عند جيل دولوز وميرلوبونتي، وأيضًا في عوالم السينما الغربية عند بازوليني.
لذا، تشتغل المداخلات وفق نسق وأفق غربيين، ما يُثير تساؤلاً عن مصير الجسد في السينما العربية، وفي "الأقلام" المنصّبة عليها أيضًا، إذْ ظلّت تحتكم في منطلقاتها لمفهوم الجسد بحسب تبلوره في النص الأدبي لا في النصّ البصري، ما يُصعِّب عملية التفكير، وإمكانية فهم طريقة اشتغال جسد الآخر في السينما.

المنزل الميت
من المداخلات اللافتة، تلك المشتغلة على الجسد القبيح في "المنزل الميت" (1962)، والجسد فيه مبثور بفعل الوباء، أي جسد فاقد للهارمونيا وذميم، وهي للناقد مبارك حسني، المنطلقة من معاينة مباشرة وتشريح دقيق لمشاهد الفيلم، مع وضعه في سياقه الفني الذي بزغ فيه، وهي مرحلة شهدت بزوغ تيارات سينمائية كبيرة منذ بداية ستينيات القرن العشرين (الموجة الجديدة)، فضلاً عن تناول مفهوم القبيح، باعتباره أحد أهم المفاهيم المنتمية إلى الجمالية المعاصرة، مقترحًا "مفهوم الذمامة" كمرادف للقبيح أو الهجين.

غير أن ما لم ينتبه إليه حسني، في حديثه عن تاريخية تُشكّل المفهوم، أنه لم يظهر في السينما، بل في الشعر، مع شارل بودلير في "أزهار الشر"، قبل انتقاله إلى التشكيل، ثم انتباه الفيلسوف الألماني كارل روزنكرانتز إليه، وهو أحد الطلاب النجباء لـ هيغل، الذي أعلن الثورة على جمالية إيمانويل كانت، التي تحتكم إلى مفهوم الجميل المرتبط بالتمثّل (لا يكمن الجمال بحدّ ذاته، بل في العين التي تراه)، ليتمّ ـ للمرّة الأولى في تاريخ الفن ـ وضع القبيح كمرادف للجميل.

قبح العالم

يقول مبارك حسني: "الفيلم صوغ لمقاربة الذمامة، مادةً وفنًا، تسعف كتمثّل جمالي للعالم، وتستند إلى جمال الشعر المقروء بصوت نسوي (الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد)، بل إلى عرض كلّ ما هو ذميم عبر صُور النوع الفيلمي الوثائقي الفني ـ الإبداعي، الراكب متن إيقاع متحكّم فيه، وهذا نابع من سيناريو مكتوب بدقّة متناهية، لا تجعل للإطناب مجالاً، فنحن إزاء تجسيد للذمامة"، منتهيًا إلى القول إن "واجب الفن الاهتمام بما يُشار إليه بالذميم، فيفضح من خلاله قبح العالم، الذي كان سببًا في وجوده".

مع ذلك، لا يُمكن إنكار قيمة الندوة، ونباهة منسقيها واختيارهم موضوعًا غنيًا كهذا، فكرًا وفنًا. والندوة أبانت بشكل جلي العوز والعطب المستشريين في جسد الجامعة المغربية، و"سلفيتها" الثقافية، وتمركزها حول الخطاب والكلمة، وعدم عنايتها بالبصري، تشكيلاً وسينما وفوتوغرافيا، وما يمكن أن تفتحه هذه المجالات البصرية من مواطن حقيقية للتفكير والمساءلة، باعتبار أن الثقافة العربية ليست ثقافة كلمة فقط، بل ثقافة تمازجت وتحاورت فيها شتى الفنون، منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم، بما أتاح لها إمكانية التواصل والاستمرار.

المساهمون