إيمانويل هامون... "انسحاب" من الرقّة

إيمانويل هامون... "انسحاب" من الرقّة

22 مارس 2019
من "انسحاب" لإيمانويل هامون (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
القصّة الحقيقية جرت وقائعها عام 2015، وسُردت تفاصيلها في "انسحاب" (ترجمة غير حرفية للعنوان الفرنسي Exfiltres)، للفرنسي إيمانويل هامون، اعتمادًا على شهادات خمسة أفراد رئيسيين فيها.

يُفتَتَح الفيلم في المطار. فرنسية ذات أصول أفريقية، مع زوجها الفرنسي وولدهما. تبدو مستعجلة. هو يبدو قلِقًا، والعلاقة بينهما يشوبها ارتباك. هي مغادرة مع صغيرهما ذي الأعوام الخمسة إلى تركيا لأسبوعين، بهدف مساعدة اللاجئين، والانضمام إلى صديقتها هناك. لا شيء يوحي بصدقها، فكلّ شيء يدلّ على أن وجهتها الحقيقية هي سورية. هكذا بات يوحي الذهاب إلى تركيا لمن هم في مثل حالها. اعتنقَتْ الإسلام منذ فترة قريبة، وتريد تطبيق ما أدركته في خدمة "إخوانها"، هناك في الأرض البعيدة. لكن، ماذا عن إخوانها القريبين؟

لا شيء يُثيرها حيث هي. تخمينٌ ربما، وهذه إحدى ثغرات السيناريو (هامون وبنجامن دوبا). تصل إلى تركيا، ومنها تنتقل إلى الرقّة، جنّتها الموعودة، حيث ينتظرها معارف فرنسيون، أحدهم أحمر ذو ذقن مشتّتة، واثنان متحدّران من أصول عربية وأفريقية. زيارة فورية معهم إلى بيت المستقبل، المستولى عليه بعد مغادرة العائلة التي كانت تقيم فيه، ثم إلى مستوصف للنساء، حيث لا دمّ للمريضات. تلاحظ فوستين (جيسيكا كالفاندا)، في أيامها الأولى، نظرات ذكورية تقتحم أنوثتها، وتسمع إطلاق رصاص بشكلٍ عبثي، وإهانات عنيفة لبائع متجوّل ولنساء. مَشاهد كفيلة بزوال الأوهام، وتغيير رأيها بالأهداف "النبيلة" لـ"داعش". تمتلكها رغبة لا تُردّ في العودة، لكن المسألة صعبة للغاية. يحبسها إخوانها في الإيمان في بيتٍ، هم الذين يمضون جُلّ أوقاتهم في ممارسة "ألعاب فيديو"، وفي التحكّم بعباد الله من البسطاء، وإطلاق النار بشكل هستيريّ حين يلزم الأمر، من وجهة نظرهم طبعًا، وحين لا يلزم أيضًا. الممثلون جميعهم يؤدّون أدوارهم جيّدًا، وينجحون في الإقناع بأنهم عناصر من "داعش".



يقرّر الجرّاح الفرنسي باتريس (شارل برلينغ)، الذي يعمل معه سيلفان (سوان آرلو)، زوج فوستين، مساعدته للتخلّص من حالته الصعبة والمأسوية، ولإنقاذ المرأة الشابّة وصغيرها، بعد التأكّد من أنّها نادمة فعليًا، وراغبة بصدق في الانسحاب من "داعش". يساعده غابرييل (فينيغان أولدفيل)، ابنه العامل في منظّمة غير حكومية في تركيا، وعدنان (قاسم الخوجة، معارض سوري وصل إلى فرنسا عبر قارب)، السوريّ الهارب من الرقّة، والساعي إلى اللجوء إلى فرنسا. يتمّ تنظيم عملية سحب فوستين وصغيرها من تلك المدينة السورية، بعد عمليات معقّدة وخطرة.

خلال تنظيم عملية الانسحاب، ينجح الفيلم في اعتماد إيقاع لاهث وجاذب، وفي إبداء الآراء إزاء هذه القضية، لا سيما في هذه الأيام التي تشهد فيها فرنسا نقاشًا وجدلاً حول عودة "أبنائها الضالين" إلى الوطن. رسميًا، لا تبدي فرنسا، في "انسحاب"، أية رغبة في مساعدة الأم وصغيرها. التبرير؟ الوضع السوري مُعقّد، وهناك شكّ بنواياها. الناشطون السوريون لا يرغبون، هم أيضًا، في مساعدة أحد من "داعش"، أيًا تكن نواياه.

هنا، يتوسّع السيناريو في شرح تفاصيل عملية الإنقاذ، خلافًا لما فعله مع دوافع رحيل الشابّة، ومع تلك التي حرّضتها، بهذه السرعة، على تغيير رأيها. بالنسبة إلى الأولى، اكتفى السيناريو بعبارة "سأكون هناك أجدى"، التي برّرت فيها فوستين لزوجها سبب رحلتها القصيرة إلى تركيا. بالنسبة إلى الثانية، اعتمد على حوادث سريعة جدًا، اعتبرها كافية لإقناع المُشاهد بزوال الوهم. مَشاهد وحوادث ربما تُقنع إنسانًا عاديًا بعيدًا، وليس من اختار، عن سابق تصميم، ترك زوج مُحبّ، وحياة مريحة نسبيًا في فرنسا، للانغماس في جحيم يعرفه الجميع. تُرك للمُشاهد تخيّل الأسباب: اندماج ربما، أو تأثّر بمعتقدات دينية... إلخ.

خلال تنظيم عملية إخراج المرأة وصغيرها، يظهر السوريون في الفيلم، وتوصف حربهم بـ"الأهلية" في سياق السرد، رغم وجود هؤلاء الفرنسيين جميعهم للقتال. من جهة، هناك على الأرض السورية مقاتلون شرسون متوحشون من "داعش" وحركات هامشية؛ ومن جهة أخرى، هناك مقاتلون يريدون الهرب إلى فرنسا، وناشطون مهدَّدون دائمًا، مثل عدنان. أما الثوريون، الموجودن في تركيا، فالصورة التي رسمها الفيلم لهم مُضحكة. ربما تكون واقعية، لكنها مع هذا كاريكاتورية. شباب وشابات يرفضون مغادرة تركيا كي يبقوا قريبين من سورية، ليكون نضالهم أجدى. يجتمعون مساء للغناء وإنشاد الأناشيد الوطنية، ولاحتساء البيرة، وإلقاء خطب. من وقت إلى آخر، يُنفّذون "هجومًا" من نوع خاص، كأن ترتمي ناشطة شابّة سورية بين يديّ ناشط فرنسي فور لقائه تقريبًا، وتُقبّله بحرارة، وتدعوه بصراحة إلى السرير. هناك من تصرخ على شابٍ معنّفة إياه بالكلام، لرغبته في الهجرة، قائلةً له: "وسورية؟"، فيردّ عليها بما معناه: "آخر همّي. خسرت فيها كلّ ناسي".

يُذكر أن المخرج إيمانويل هامون عمل سابقًا مساعد مخرج، مع باتريس شيرو وموريس بيالا وروبرت ألتمان، قبل أن يُكرّس نفسه، في 10 أعوام، لإخراج أفلام وثائقية، سياسية اجتماعية تاريخية. مع "انسحاب"، يُحقِّق أول روائي له، يُعرض حاليًا في الصالات الفرنسية. صوّره في الأردن، لأنه أراد مكانًا يُشبه بجغرافيته سورية، وأسند معظم الأدوار الثانوية إلى لاجئين سوريين. في مقابلة ترويجية للفيلم، منشورة على الموقع الفرنسي "آلو سيني"، ذكر هامون أنه خلال التصوير في شوارع عمان مع ممثلين يرتدون ملابس "داعش"، ويحملون رايات التنظيم، اتصل سكان المنطقة بمركز الشرطة للتبليغ عن عناصر خطرة تتجوّل في المكان.

دلالات

المساهمون