إيفا أونيسكو: في السينما ننطلق كلّ مرة من الصفر

إيفا أونيسكو لـ"العربي الجديد": في السينما ننطلق كلّ مرة من الصفر

20 مارس 2019
إيفا أونيسكو: لا شيء يُرضيني البتّة (جويل ساجيه/فرانس برس)
+ الخط -

بعد فيلمها الأول، "أميرتي الصغيرة" (2011)، تعود الروائية والمخرجة الفرنسية إيفا أونيسكو (1965) إلى السينما بعمل ثانٍ، يُعتَبر تتمّة لباكورتها، وينبش في سيرتها الشخصية، كما يوثّق فترةً صاخبة من التاريخ الحديث لفرنسا، وتحديدًا الحياة الليلية فيها، بين أواخر سبعينيات القرن الـ20 ومطلع ثمانينياته.

تجري أحداث فيلمها الجديد هذا، "شباب من ذهب" (2018) ـ المعروض في الدورة الـ48 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي" ـ في الملهى الأسطوريّ "لو بالاس" في باريس. مكانٌ حاضنٌ لأحلام جيل كامل وطموحاته، وينطوي على رمزية وشهرة لا يزال صداهما يتردّد لغاية اليوم.

إيفا أونيسكو كانت إحدى "أميرات" هذه "الديسكوتيك"، والحاضرة الدائمة في أمسياتها الترفيهية والفنية التي لا تنتهي. فيها، تعرّفت على الحياة بحلوّها ومرّها، وهي لا تزال مُراهقة في مقتبل تجربتها الإنسانية. الشخصية المستوحاة من أونيسكو في الفيلم تُدعى روز (غالاتيا بيلوجي)، التي تلتقي ـ رفقة حبيبها الرسّام الشاب ميشال (لوكا أونيسكو) ـ ثنائيًا متحرّرًا إلى أقصى درجات التحرّر (إيزابيل أوبير وملفيل بوبو).

"العربي الجديد" التقت أونيسكو، وكان معها الحوار الآتي:

(*) جميلٌ فيلمك الجديد. هل يمكن اعتباره تتمة لـ"أميرتي الصغيرة"؟
ـ نعم، يمكنك قول ذلك. علمًا أنّي ربما أُنجز تتمات أخرى أيضًا. الشباب فترة طويلة من حياة الإنسان، تحتمل فيلمًا آخر. حياتي كانت غنية، وتنطوي على تفاصيل كثيرة، ما يجعل تصوير أفلام عديدة عنها احتمالاً واردًا. على كل حال، "شباب من ذهب" اقتباس لروايتي التي لم تُترجم بعد، وعنوانها "براءة". فيها تفاصيل كثيرة، كعلاقتي مع والدي، أُجبرتُ على اختصارها، لأنه لا يُمكن وضع كلّ شيء في فيلم. الكتابة والتصوير أمران يختلف أحدهما عن الآخر تمامًا. في الرواية، نجول في الزمن كما يحلو لنا. لا قيود مالية، ولا تقنيات، ولا معرفة بفنّ البصريات. لا شيء من هذا كلّه يعوق التنقّل الحرّ في رحاب الزمن. الرواية توفّر المزيد من الحرية، وليست المساحة التي في تصرّفك سوى أحد تجلّيات هذه الحرية.

(*) الفيلم عن الجمال أولاً. لا مبالغة في القول إنّه عن بشر يتميّزون بجمال المظهر والهندام.
ـ هذا صحيح، إلى درجة ملاحظتي أن هذا يستفزّ البعض. لا أعرف لماذا، في الحقيقة. كلّ ما أردتُ تصويره هو إحساسنا في تلك الحقبة، التي تجري فيها أحداث الفيلم. كنا نولي أهمية قصوى لأزيائنا. حضور الشكل والموضة والجماليات المبتكرة في حياتنا كان قويًا. مقاربتنا للجمال كانت مختلفة عمّا هي عليه اليوم. وددتُ مواصلة ما بدأته مع فيلمي الأول، "أميرتي الصغيرة"، حيث "الأستيتيك" كان طاغيًا.

(*) كان هناك اهتمام أكبر بالمظهر الخارجي في تلك الأيام.
ـ أوافقك الرأي. علمًا أن بعض الشباب لا يزال يهتمّ بالمظهر في أيامنا هذه. لا تنسى أنّي أصوّر حفلات راقصة. كل سنة، هناك 3 أو 4 حفلات كبيرة يقدّمها كبار الموضة، أمثال سان لوران وكنزو. تييري موغلر لم يُقدّم يومًا أي حفل، لذا انطلقتُ من فكرة أنّ نتخيّل حفلاً له في الفيلم، فأزياؤه كانت على درجة عالية من الروعة. المرحلة التي أرويها مميزة جدًا في تاريخ فرنسا. هذه الحياة الليلية الصاخبة كان يشارك فيها ناس الموضة، ولكن أيضًا منْ لا علاقة له بها، وهؤلاء هواة الأزياء المختلفة. على كل حال، لم يكن ممكنًا دخول هذه النوادي لولا هذه الأزياء. كان الزي المعيار الأول للقبول بك داخل هذه النوادي. طبعًا، الموسيقى الجديدة التي راجت في تلك الفترة شكّلت أيضًا أحد اهتماماتنا. لم نكن نستمع إلى "الديسكو" فحسب، إذْ كانت تُقام حفلات موسيقية كثيرة لمغنين معروفين.

كوننا كنا نعيش في شقّة قريبة، كنا نذهب إلى سوق البرغوث، وهناك نلمّ ما يمكن ان نلمّه من أزياء، فكثيرون في الفيلم كانوا مفلسين، ومع ذلك تراهم في منتهى الأناقة، تمامًا كمغني "الروك". قرأتُ مقالات عديدة عن كيف أن أعضاء فرقة الـ"رولينغ ستونز" كانوا يشترون ملابسهم في شقق مخصّصة لهذا الغرض.
مجمل العمل أردته أن يعكس حلمًا طفوليًا. إنه تجسيد لما كان يجول في بالي وقتذاك. إنه الزمن على سجيّتي الخاصة. هذا الزمن الذي كلٌّ منّا يراه من منظاره.



(*) وباريس "جسمها لبّيس" أيضًا. أي أنّها تُشكّل المكان المناسب لهذا.
ـ هناك مدن أخرى في فرنسا يمكن أن يستمتع فيها الناس (ضحك). لكن، ما هو صحيح أنّ باريس كانت دائمًا عاصمة الموضة والجمال والأناقة. لا أعرف ما هي حالتها اليوم. ألا تزال كذلك؟ انقطعتُ عنها. لم أعد متابِعة. يجب أن أسأل ابني عن الحفلات والسهرات، لأن الأشياء تغيّرت. كلّ ما أعرفه أنّه لا يسهر في النوادي الليلية، بل يجتمع مع رفاقه وأصدقائه في الشقق. هذه هي الموضة حاليًا في باريس. عدد الملاهي الليلية تقلّص مع الزمن في هذه المدينة.

(*) لا نرى باريس كثيرًا في الفيلم، لكنّنا نشعر بوجودها "تحت الجلد". هل كان هذا خيارك منذ البداية؟
ـ نعم. نشعر بها كما قلتَ. معظم الأماكن التي صوّرناها داخلية لا خارجية. في أي فيلم، عليك بخيارات. كانت موازنتنا ضئيلة، ما اضطرّني إلى حسم خياراتي. هناك دائمًا مشاكل مرتبطة بالموازنة، هي التي تمنح الفيلم صيغة. أنجزنا الفيلم بما توفر لدينا. أوافق انه كان من الأفضل منح باريس مساحة أكبر.

(*) ماذا حلّ بـ"لو بالاس"، هذا النادي الأسطوريّ؟
ـ لم يعد موجودًا. تمّ إقفاله عام 1983، أي بعد فترة قليلة من أحداث الفيلم. صاحبه فابريس إيمير توفي. بعد وفاته، أشياء كثيرة تغيرت. ثم طبيعة الحياة الليلية هي أيضًا تغيّرت. هناك مراحل تتجلّى فيها الأشياء بشكل أوضح. لذلك، أعتبر أنّ "شباب من ذهب" هو عن حقبة معينة (1979 ـ 1980)، تجري في مكان معين، لا العكس. يصدف أنّ تلك الحقبة تقع أحداثها في "لو بالاس".

(*) هل الرغبة في الحرية هي التي كانت تقودك خلال شبابك؟
ـ صراحة، لا اعرف. كانت سنوات ضياع. ما أردتُ قوله من خلال الفيلم هو لحظة فقدان البراءة. وددتُ نقل هذا الشيء الذي نراه في "العلاقات الخطرة" (رواية شهيرة لبيار شودلر دو لاكلوس، نُشرت عام 1782. المحرّر)، لأنّنا كنا منبهرين بها. كنا منبهرين كذلك بالناس الذين يقيمون في أماكن جميلة، فنزورهم باستمرار. في "لو بالاس"، كنّا على تماسٍ مع هؤلاء الأغنياء الذين كانوا يحملوننا إلى "بعيد". هذا ما يحدث لروز وميشال، اللذين يذهبان إلى مكان يحلو للجميع الذهاب إليه.



(*) هل زمنكم كان أكثر براءةً ممّا هو عليه اليوم؟
ـ بالعكس. عندما كنتُ أكتب روايتي "براءة"، كنتُ أصوّر فيلمي الأول "أميرتي الصغيرة" في الوقت نفسه. تداخلت الأشياء بعضها ببعض. هذا جعلني أرى في مصير الفتاة التي كنتُها فقدانًا للبراءة. أما ما يفعله الشباب اليوم، فأنا لست حكمًا في هذا المجال، وأجهل حتى ماذا يفعلون اليوم. إنّي بعيدة عن هذه الأجواء كلّها. أعيش في الريف، وأمضي وقتي في الكتابة، ولا أنزل إلى باريس إلاّ نادرًا. لست على تماس بالحياة الاجتماعية المعاصرة، ولا أريد أن أكون. هذا لا يعني أنّي لا أهتم إلا بشؤوني، لكن وقتنا على هذه الأرض محدود كي نهتم بكل شيء. هناك من يدّعون بأنهم يهتمون بشؤون الناس جميعهم. أنا لا.

(*) هل هناك حاجة نفسية لكشف تفاصيل حكايتك الشخصية في أفلامك؟
ـ هذا شيء صار رائجًا في أيامنا. ميشال ولبك لا يحكي غير هذا. يمزج الواقع بالمتخيّل. معظم الروايات الحديثة يقع بين الشخصيّ والعام. بُنية هذا الفيلم قاربتها كأني أكتب رواية لا سيناريو. لكن، في المقابل، لا أؤمن بفكرة أن على الكاتب أن يعيش حياة على أوسع نطاق قبل أن يكتب. هناك أمثلة تخالف هذه النظرية.

(*) لماذا انتظرتِ هذا الوقت كلّه قبل أن تروي قصّتك؟
ـ لأنه من الصعب جدًا إنجاز الأفلام، خصوصًا تلك التي تتحدّث عن الذات. هذا يتطلب وقتًا طويلاً وصبرًا كثيرًا. آمل ان يكون الفيلم الثالث أسهل، وإلا فسأصبح عجوزًا (ضحك).

(*) لماذا اخترتِ إيزابيل أوبير؟
ـ لأنها ممثّلة كبيرة، عملتُ معها سابقًا، وودَدتُ تكرار التجربة. ثم هي الوحيدة التي يُمكنها تجسيد شخصية مجنونة على النحو الذي تجسّده. لإيزابيل جانب "سوفيستيكيه". يزعجني عند بقية الممثّلات الفرنسيات هذا الجانب الشعبي الذي يمتزج بشيء من العادية.

(*) ما الصعوبة الكبرى التي واجهتك خلال التصوير؟
ـ قلة الوقت. حتى مع فيلمي الثاني، كانت التجربة أشبه بوقوفي خلف الكاميرا للمرة الأولى. في السينما، كل مرّة ننطلق من الصفر.

(*) هل كان لديكِ موديلات تمشين على خطاهن، من السينما الفرنسية تحديدًا؟
ـ لديّ كثيرات. استلهمتُ قليلاً من بريجيت باردو، والسينما الإيطالية، وحتى من ماريزا بيرينسون، رغم أنّ إيزابيل لا تشبهها. بالنسبة إليّ، شخصية ميشال (لوكا أونيسكو)، استوحيتها من دادو روسبولي، الشخصية التي ألهمت "لا دولتشي فيتّا" لفيلّيني. أما لبناء شخصية روز (غالاتيا بيلوجي)، فعدنا إلى إيزابيل كوريه التي مثّلت قليلاً، وظهرت في "بوب لو فلامبور" لملفيل. طلبتُ إلى غالاتيا أن تشاهد أفلامًا كثيرة أُنتِجت بين الحربين (العالميتين). هناك إحالات كثيرة على سينمات وأفلام.

(*) هل أنت راضية عن استقبال الفيلم في فرنسا؟
ـ لا شيء يرضيني البتّة.

المساهمون