حميد الشاعري: صورة تذكارية لجيل الثمانينيات

حميد الشاعري: صورة تذكارية لجيل الثمانينيات

01 مارس 2019
نجاحه كمغنٍ ثم ملحن وموزّع موسيقي (فيسبوك)
+ الخط -
أتى حميد الشاعري (1961) من مفترق طرق كانت فيه الأغنية المصرية تعيش نهاية عصر، ليتمرّد بصيغ جريئة ستساهم في ذائقة جيل. كان الأمر أشبه بالإعلان عن روح جديدة جسدت برتمها السريع شباباً مشاكساً، ظل يرسّخ عقوقه لأساليب شاخت. ومع أن الجدل الإشكالي كان عن حميد وجيله المتهم بالقطيعة عن الأصالة، إلا أن مساره ظل ملتصقاً بمتطلبات سوق عزز تمرده.

راحت السبعينيات تبحث عن انطلاقة صاخبة، مع توليفات لحنية وإيقاعية؛ برزت فيها الكوردات على الأورغ. عدا أن توظيف الأورغ في الأوركسترا أخذ دوراً تهريجياً، باعتباره آلة تلعب دور فرقة كاملة بمحاكاتها أصواتاً مختلفة. كان لا بد من استعادتها كآلة كهربائية خارج الأوركسترا، كما الفرق الموسيقية الصغيرة في الغرب. انتمى حميد الشاعري إلى جيل الثمانينيات المتمرد، بينما كانت السبعينيات أكثر انصياعاً، لتتشكل نجومية هاني شاكر في ثوب أكبر من مقاسه، مقلداً عبد الحليم.

مهدت متغيرات كثيرة للشاعري أن يبرز كمغنٍّ، ثم صاحب مسار، أو شكل موسيقي، سيقتفي أثره جيل أو اثنان. ربما، ساهمت تقنيات التسجيل والمحسنات الصوتية في بروز جيل غلبت على أصواته الهشاشة، كما سبق أن لعب الميكرفون دوراً في ظهور جيل عبد الحليم حافظ. كانت الأصوات تتجه نحو المساحات الأكثر ضيقاً. وكما اتسم الشكل التعبيري لعبد الحليم عبر مقاربة اللحن بالانفعال، فإنه منذ الثمانينيات، صارت قاعدة التعبير صورة لحيوية الشباب ومرحه.

أصبح الكاسيت محورياً في صناعة النجم، وانتهت عصرنة الموسيقى العربية بالترافق مع أساليب البوب. ابتدع حميد الشاعري أسلوباً ثورياً، بصرف النظر عن قيمته الفنية؛ فمن ناحية، ابتكر شكلاً جديداً لإيقاع المقسوم عبر التجسيم الصوتي والتسارع النابض، مع إدخال صفقة اليد، ليكون علامة مميزة في أغاني أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. وكان بصوته المبحوح، ضيّق المساحة، صاحب رؤية موسيقية، أو صانع توليفات. وبمزيج من عناصر غربية وشرقية، شغل اهتمام السوق خلال عقد.

اعتمدت تلك الموجة على ثيمات لحنية سهلة وكلام عادي تغلب عليه الركاكة. وكثيراً ما سارت الاتجاهات نحو التكسير اللحني، باللعب على تكرار الثيمات، والحد من نغميته. فالهاجس الرئيسي لتلك الألحان كان دغدغة العابر واليومي، محاكاة الجو الاحتفالي لتجمعات الشباب في الشارع، وبهجة التصفيق، الذي كان جزءاً من المسار الإيقاعي. إنه أيضاً الحب المشاكس وحيوية الصبا. وهكذا سُميت الأغنية "الشبابية" أو "السريعة"... و"الهابطة".

لم ينجح الشاعري في أول ألبوماته، لكنه ظلّ مطلوباً كخيار لازدهار السوق. لم يتخل عن أسلوبه، إنما راهن عليه بصيغة معدلة. ومع نجاحه كمغن، ثم كملحن وموزع موسيقي، تهافتت عليه السوق. حضر حميد في مخيلة الجيل بمشاكسته اللحنية وهو "يتنطط" مغنياً "صهللي، جلجلي"، لتكون استعارة النخب في وصم ألحان الجيل بالركاكة، لكن السوق دافعت عنه بما أنه مطلبها، وبوصفه مركزياً وسط حشد من النجوم الشباب. ربما شكلت جذور حميد الشاعري الليبية دوراً في تحرره من القيود وظهوره بتلك الجرأة.


في مصر، أصبح حميد الشاعري متهماً بأنه وراء كل ما هو هابط موسيقياً، حد أن بعض النزعات الشوفينية حملت الشاب الليبي مسؤولية الانحدار الموسيقي، بل راهن البعض على أن ذلك التيار مجرد فقاعة آيلة للزوال؛ فالثمانينيات كانت محكاً لافتاً بين عصرين متباعدين، وحميد أحد تجليّاته. إنه أيضاً جيل الثمانينيات الذي تلقى أسواط الأب المؤلمة، وشاكس بطريقته.

كذلك، رغم انبهار الجمهور بتلك الموجة، ظل ينظر نحوها بالتباس، مرسخاً في وعيه أن كل ما يمت إلى الذوق السليم ينتمي بالضرورة إلى الماضي أو الآباء، لكنه يرقص ويمرح مع أغانيها. وفي رصيد حميد، ثمة ملامح أكثر غنائية محدودة الثيمات، كما في "نسمة صبا".
راهن الشاعري على التآزر في ألبوم "أكيد" عام 1986، بوجود أربع أغانٍ ثنائية (دويتو)؛ مع علاء عبدالخالق، وحنان، إضافة إلى سوزان عطية، والأهم كانت أغنية "أكيد" بمجاورة محمد منير، الذي ثبت نفسه بلون نوبي مختلف. هل كان حميد وجيله بحاجة إلى التلاحم في وجه مدافع النقد؟



على صعيد آخر، كان النجاح الأبرز لحميد الشاعري مغنياً في ألبومه "ميلي" عام 1988. غير أن حضوره الأكثر بروزاً في نفس العام كان كموزع موسيقي، إذ قام بتوزيع نصف أغاني ألبوم "ميال"، انطلاقة عمرو دياب نحو النجومية، وأول تعاون بينهما. كما وزع ألبوم "لولاكي" بأكمله، والذي حقق أعلى نسبة انتشار في العالم العربي. وكان أن انتهى بصاحبه علي حميدة كدلالة لوصم هذا التيار بالفقاعة.

بعد سنوات، سيتم منع حميد الشاعري من الغناء في مصر، كنتيجة تكالب تحريض متطرف ضد تياره، بحكم قضائي. مع ذلك، استمر مقصداً للوسط الغنائي المصري كونه مصدراً للنجاح. ومع ظهور توجهات لحنية وموسيقية أكثر شرقية، اختلفت عن توجهات حميد الشاعري، وحققت رواجاً، من خلال توظيف آلات غربية وشرقية بجمل لحنية راقصة؛ بحث الشاعري في تنويع عناصره، مؤكداً، أيضاً، حضوره كحامل تيار موسيقي جديد في العالم العربي. فاستعاد بعض ثيمات بليغ حمدي في "سكة العاشقين" لمصطفى قمر، ومرتدياً بعض أجواء التطريب من خلال الوتريات الشرقية في توزيع لرجاء بلمليح، وإن كان من مقام الكرد المستنزف. وخلال التسعينيات، ما زال يمتلك المفاجآت.


كان الشاعري، أيضاً، إحدى أكثر المحطات أهمية في توزيعه الموسيقي لعمرو دياب الصاعد إلى القمة. حضرت أيضاً الغيتارات الإسبانية أول مرة في أغنية "ويلوموني"، بتدفقها الراقص.
يعود "الكابّو" عام 1996 لتوزيع واحد من أهم أعمال عمرو دياب، "نور العين"، وهي من ألحان الليبي الآخر، ناصر المزداوي. كانت الصرعة التي لفت العالم لتعود في نسخ بعدة لغات عالمية. بدأت مرحلة جديدة في مسيرة عمرو دياب نحو نجاح سيتسم بالعالمية. ولعب التوزيع الموسيقي لحميد دوراً محورياً في انتشارها الواسع؛ دوي الغيتارات الإسبانية بكوردات متدفقة وثيمة إيقاعية لافتة، مع تدافع أكورديون مشرق بجمل لحنية قصيرة وراقصة. وبعد ألبوم "عودوني" عام 1997، صار "الكابّو" أقل إبهاراً، بعد أن استنزفه تهافت السوق.


أول التسعينيات، ظهر الشاعري في فيديو كليب محتضناً غيتاره، وحوله مجموعة من المطربين الشباب، الذين كان له الفضل في دفع مسيرتهم، يغني ويغنون معه. غالبيتهم، أصبحوا ضمن الصف الأول لنجوم التسعينيات وبداية الألفية الجديدة؛ إيهاب توفيق، هشام عباس، مصطفى قمر، وحكيم الذي ظهر بثوب شعبي أكثر عصرية. تثير الصورة دلالة حضور الكابّو كرمز أو زعيم لذلك الجيل، عدا عن أنها اتسمت بطابع الصداقة أو الرفقة، عكس الصورة الأبوية التي ظل عبد الوهاب يلتصق بها في زمن سابق.
كانت حقبة الثمانينيات مشاغبة وملتبسة، صاخبة بألوانها وتناقضاتها، وكان حميد الشاعري أحد وجوهها. قبل عقدين، لم يكن لتخطر في بال أحد أنه من الممكن الكتابة عن تجربة الشاعري وأثره الموسيقي بصيغة جادة. فكل ما قام به، بالنسبة لمناهضيه، تجسيد للصفاقة، كان البعض أيضاً يدافع عن حالة الركود كمسلمة أبوية وظيفتها احتكار الذائقة والتوجهات. وبعد ثلاثة عقود، لن يهتم الكثير بالكتابة عن حلمي بكر، بينما يثير كابو المشاغب، بتجربته، الكثير من التساؤلات: ما الذي فعله؟ وبتوزيع موسيقي أقل تعقيداً، أصبح رمزاً لجيل وصانع أسلوب هزّ سوق الغناء في العالم العربي، وإن لم تتسم رؤيته بالطموح خارج دائرة الانتشار.

دلالات

المساهمون