السينما الأميركية: الأوليغارشي الروسي على مقعد المخرج

السينما الأميركية: الأوليغارشي الروسي على مقعد المخرج

09 فبراير 2019
من فيلم "د. سترينجلوف" للمخرج ستانلي كوبريك (Getty)
+ الخط -
تتوالى الأخبار عما يُشتبه به دوراً روسيّاً محتملاً، في حسم نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية. يُصدِر روبرت مولر المحقق في تلك المزاعم، الاستدعاء تلو الآخر. تُدلى الشهادة تلو الشهادة، فيما تتابع الشكوك تسلّقها هرمَ المؤسسة الرسمية، كاشفةً عن مدى عمق الصلة وغور التشابك في العلاقات والمصالح بين مسؤولين ومن يدور في فلكهم من مُساعدين واستشاريين، وبين جهاتٍ مالية وسياسية، ورُبما استخباراتية، قد تكون محسوبةً على الكرملين.

ليس في أميركا وحدها. بريطانيا قد لمّحت، في غير مُناسبة، إلى تنامي النفوذ الروسي الخفي. حامت الشُبهات، وما زالت تحوم، حول دور مُحتمل لموسكو، في مآل الاستفتاء الشعبي الذي خرج بالمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. كثيراً ما يُظهر الرأي العام الغربي، في الصحافة والإعلام، علامات الصدمة والمفاجأة من مدى الانكشاف والرخاوة، التي تعاني منه مجتمعاته ومؤسساته المالية والسياسية، إزاء تلك الموجة الجديدة من التدخّلات والتداخلات الروسية. هوليوود وحدها، لعلها لم تُفاجأ!

يُنظر إلى السينما الأميركية على أنها صناعة كُبرى، الربح هو هدفها الأول والأخير. تُحققه بالإثارة والتشويق، عن طريق المؤثرات المُحكمة والخدع المُكلفة والمُتقنة، تُثار بها الغرائز وتثور لها العواطف والمشاعر، فيحصل المُشاهد مقابل تذكرة العرض، على قدرٍ من اللذّة الحسية والمُتعة البصرية. في منسوب أكثر عُمقاً وانخفاضاً، لعبت هوليوود، وتلعب، دورَ الحامل الأيديولوجي المُستتر للإمبريالية الرأسمالية الأميركية. في تمايز عن الحوامل الثقافية التي اعتمدها اليسار الشمولي، والتي قدّمت الواقع من منظور ما يجب أن يكون، أو كما يتبنّاه خطاب "القيادة المركزية"، توحي هوليوود كما لو أنها تصف الواقع كما هو.

بيئة الفيلم الأميركي، في حقبة ما بعد حرب فيتنام، إن هي جُرّدت من شقلبات المركبات في الهواء، ووابل الرصاص المُتطاير، ومن امتطاء المروحيّات وهول الانفجارات والحرائق الناجمة عن ارتطامها بناطحات السُحب الزجاجية الباسقة، تظل بيئة واقعية، في كيفية توصيفها للحياة والمُجتمع الأميركيين. تتم صناعة كلٍّ من شخصية العدو والبطل، من خامات نفسية اجتماعية وخلفيات ثقافية، ترصد من خلالها الأخطار والتحديات التي تراها المؤسسة الرسمية، أو تُريدها، مُحدقة بها وماثلة أمامها، وإن بعدسة الشفافية والنقد الذاتي التي يحدّدها الإطار العام للنظام الديموقراطي.

لم تتغيّر سردية البطل كثيراً؛ هو الفرد، العميل/الشرطي السابق أو الخارج عن الخدمة. استدعاه إما الثأر أو الخطر، إلى التدخل والأخذ بزمام المبادرة، فيما تكتفي المؤسسة الرسمية، من أمن وشرطة، بدور المراقب، أو الغافل، أو حتى المتآمر والمُعيق للعدالة. يبدو هذا التجسيد، كأنه يخدم صنّاع السلاح، يحض المواطن على حماية نفسه بنفسه، وبسلاحه، وعدم تفويض الدولة وحدها بممارسة العنف واحتكاره. على الطرف الآخر للمعادلة السردية، تبدّلت هويّة العدو في فيلم الإثارة، بتبدّل ماهية الخطر المُحدق بأميركا، أو ما تعتبره المؤسسة الرسمية ودوائرها الأمنية والاستخباراتية، وحتى الدولة العميقة، مُهدّداً لمصالحها، تبعاً لكل مرحلة.


إبّان الحرب الباردة، ومع نهايتها، كان البطل إما يمينيّاً مُتطرّفاً، يُسمع مُتحدّثاً الألمانية، في إشارة إلى النازية؛ العدو القديم، صاحب خُطّة جهنمية جنونية، تهدف إلى القضاء على الولايات المُتحدة، قائدة العالم الحر. العدو مرات، يساريٌّ مُتطرّف، عميلٌ للاتحاد السوفييتي والقوى المنضوية تحت مظلّته، في إسقاط مُباشر على الصراع الإيديولوجي والجيوسياسي الذي كان قائماً. مع انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ثم اندلاع حرب الخليج الثانية؛ أي تحرير الكويت، صار العدو عربيّاً، إرهابياً يضع كفّية، ويتحدث العربية، في جهدٍ لتعبئةِ الرأي العام الأميركي ضد الطغاة العرب والإرهابيين الإسلاميين، إضافةً إلى تمكين إسرائيل، خطابيّاً، في احتلالها لفلسطين وصراعها مع محيطها العربي.

على هامش هذا المتن، تنوّع الأعداء، من مافيا يابانية ورواسب صقليّة وعصابات مخدرات كولومبية، إلا أن عدواً جديداً يُصنع ويصعد الحلبة، الأوليغارش الروسي؛ رجل مال السلطة وسلطة المال، ويده الضاربة؛ المافيا الروسية. خلافاً لمن سبق من تشكيلة الأشرار، يبدو العدو الجديد مركّباً، من جهة القوة والشراسة، والدهاء والحنكة، ومن جهة أخرى، تَمدده وتشعّبه داخل نسيج المُجتمع الأميركي المُعاصر، في صورة تُحاكي نفوذ مافيا البرونكس الإيطالية في الخمسينيات حتى الثمانينيات، وإن بشكل ما بعد حداثي معولم، أُسقط على راهن السياسة الروسيّة -ما بعد يلتسين- بقوتها الصلبة والناعمة، العازمة على إعادة أحياء المجد القديم على أكبر رقعة ممكنة من العالم الجديد.

تفكّك الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينيّات، وتصدّعت بناه الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ومما شُيّد على مدى قرابة القرن، منذ أتت الثورة البلشفية لتنقل المجتمع، من أميّة شبه عامة واقتصاد زراعي مُتخلف، وفي غضون عقدين أو ثلاثة، إلى قوّة عُظمى، انضمت لنادي رابحي الحرب العالمية الثانية، ثم أصبحت قطباً كونياً، قاد معسكراً في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. تكوّنت القوة تلك، إضافةً إلى موارد الاتحاد الجغرافية والبشرية والطبيعية، بفضل سياسة قامت على الاستثمار العظيم في التربية والتعليم، بوصفهما حجر زاوية التحوّل من فلاحة الأرض إلى غزو الفضاء.

مع الانهيار الكبير والمُذل لدولة عُظمى وقطب، ولفكرة طوباوية آلت طغياناً ثم تحلّلاً وفساداً، بدأ النزف إلى خارج روسيا برؤوس ثلاثة؛ بشرية، ومالية، وعلمية. أموال طائلة هُرّبت، بفعل حرية التجارة، من خزائن كبريات المصانع والشركات في قطاعات الغاز والدواء، لتودَع مصارفَ وعقارات منتشرة من هونغ كونغ إلى مانهاتن. كما هاجرت الكفاءات العلمية إلى وجهات شتى، حاملةً معها مخزون نظام تعليمي استثنائي، في الرياضيات والعلوم، وبالأخص في المعلومات والحوسبة، وُظّفت في عديد الأبحاث والمُختبرات في أميركا وغيرها، فوق الأرض وتحتها، أمام عيون الحكومات أو غفلةً عنها، لتنشأ شبكة في المهجر، معولمةً وعابرة للحدود، مادية، سينيكية، لا غاية لها سوى المال، والمزيد منه.

نما المهجر وازدهر، وأخذ يُشبِّك مع رجال أعمال وسياسيين محليين شرقيين وغربيين، في صفقات بيع وشراء وشراكة، فتعمّق حضوره وازدادت قوة تأثيره. مع عبور روسيا مرحلة انتقالية حرجة وعودتها سريعاً إلى الساحة الدولية، ونيّتها التصدي لغربٍ أذلّها وأهملها، عادت أواصر الصلة تُعقد بين المهاجرين الروس وروسيا الأم، فصار للكرملين ذراعان؛ واحدة تُحرّك أحزاب أقصى اليمين في الغرب والعالم، عن طريق تداخل مصالح ساستها والأوليغارشية، وذراع أخرى عادت لتُحرّك أقصى اليسار، بإحياء إرث علاقات الاتحاد السوفييتي السابق مع الأحزاب الشيوعية والاشتراكية. كل من الذراعين باتت تُطْبق الخناق على أحزاب الوسط، التي أدارت النظام العالمي، في شبه انفراد، طيلة فترة ما بعد الحرب الباردة.

المفارقة أنه، فيما تنبري القيادة الروسيّة للدفاع عن صون السيادة والحفاظ على وحدة الأرض، في وجه التدخل الخارجي والعولمة التي ما فتئت تقوّض الحدود الجيوسياسية التقليدية للدولة الوطنية، تبدو العولمة السائلة ذاتها، العابرة للسيادة، هي المجال الحيوي الذي تمارس موسكو فيه أسلوبها الجديد في التدخّل، حيث شبكات المصالح بين المال والسياسة، وحيث التأثير على الرأي العام، عن طريق اختراق الإنترنت والمنصّات الاجتماعية المختلفة، بغية تشديد الاستقطاب الاجتماعي والسياسي.

استشعرت هوليوود، منذ أمد، نمو تلك القوة، كونها مرسال المؤسسة الأميركية الرسمية ولسان حالها، منها تموّل وتُنتج الأفلام، ومن أجل بقائها تصوّر وتُسوّق لتوجّه الرأي العام، في مجتمع لا يزال يرتدي سترة الديموقراطية. المشكلة اليوم، أن "العدو" لم يعد صنيعة الشاشة وأسيرها، لحين أن يُجهز عليه الشرطي والكاوبوي، فقد تغلغل، في ما يبدو، حتى وصل إلى صلب دهاليز السلطة ومراكز صنع القرار الأميركية والغربية.

المساهمون