موت السينما... كي لا يتحوّل المُشاهد إلى حيوان ليلي

موت السينما... كي لا يتحوّل المُشاهد إلى حيوان ليلي

07 فبراير 2019
رفض هذه التقنيات يتعلق بارتباط المخرجين بالماضي (Getty)
+ الخط -
أمات كثيرون السينما منذ أن ولدت وحتى اليوم. كان يُعلن الخبر الحزين عند كل منعطف ثقافي، فكري، أو تكنولوجي، اشتمل عليه التاريخ؛ إذ نستطيع أن نلتمس النعي الخفي في كل دعوة جديدة إلى إعادة خلق علاقة من نوع ما مع ماضي السينما، سواء عبر اتخاذه كنهج للحاضر، أو قطع الصلات معه عبر قفزة ثورية.

لقد تسبب استخدام الصوت بموت السينما الصامتة، وهو الموت الرابع للسينما كما يصفه الباحثان أندريه غودرولت وفيليب ماريون. إذن، يتضّح لأي مراقب أو دارس لتاريخ السينما، أن إماتة هذا الفن حيناً، وإعادة إحيائه حيناً آخر، مردّه إلى السؤال الأزلي: "ما هي السينما؟" أو بشكل أدق: "ما هو الفيلم؟". وهي الإجابة التي يستحيل إيجازها على شكل تعريف واحد ثابت، ومحدد، ومرضٍ للجميع.

شكلت الثورة التكنولوجية الأحدث في عالم السينما، وهي الثورة الرقمية، واحدة من أكثر اللحظات أهميةً وجدلاً في تاريخ السينما المعاصر، إذ وضعت السينما الرقمية إنتاجاً، وتوزيعاً، وعرضاً، العالم كله في حالة حداد على أفلام السيلولويد. في عام 2011، سيكون غلاف مجلة دفاتر السينما الفرنسية: "وداعاً 35 ملم، لقد أحببناك كثيراً". ستتوقف بعدها الكثير من الشركات عن تصنيع الكاميرات الفيلمية، الأمر الذي لن يترك للعديدين خياراً سوى خليفتها الرقمية بمختلف أشكالها.

أحدثت هذه الثورة شرخاً واضحاً بين المخرجين الذين ذهب بعضهم، كـ فرانسيس كوبولا، إلى التأييد المعتدل لها، في حين رأى فيها آخرون، كالأميركي جورج لوكاس، طريقاً جديداً، لا عودة منه إلى وراء، فُتِح أمام السينما شكلاً ومضموناً، بينما رفضها آخرون رفضاً تاماً محملين إياها الملامة على موات السينما، أو تلك التي عهدوها سابقاً على الأقل، إذ يبدو أن الرفض الصادر عن بعض المخرجين لهذه التقنيات الجديدة، يتعلق بالدرجة الأولى بمدى ارتباطهم بالماضي، وبتفضيلهم نمطاً سينمائياً ما، دون آخر.

يعلن كوينتين تارانتينو، في عام 2014، خلال مهرجان كان السينمائي، موت السينما للأسباب ذاتها التي يحييها بها آخرون؛ السينما الرقمية وأجهزة عرضها الرقمية، وتخلي المخرجين الجدد عن فيلم مقاس 35 ملم. "السينما كما يعرفها تارانتينو" خسرت حربها. كذلك الأمر بالنسبة إلى عدد كبير من المدافعين عن فيلم 35 ملم، و70 ملم، ومن بينهم كريستوفر نولان ومارتن سكورسيزي.

أعادت هذه الآراء المتعارضة طرح قضية "هوية السينما"، وعلاقتها بوسائل إنتاجها وتلقيها، وعلاقة الرسالة بالوسيلة المقدمة عبرها أيضاً؛ فرأى عدد كبير من المخرجين أن الشكل الجديد للسينما، بدأ يفرز بدوره مضموناً جديداً. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، صعود أفلام الأبطال الخارقين في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يشير إليه ريدلي سكوت بازدراء شديد.

كما يزعم سكورسيزي أن "انتشار الصور" على مختلف الأجهزة والشاشات، جعل تجربة السينما أقل خصوصية، كذلك الاعتماد المفرط على "التقنيات السطحية" التي يقدمها الحاسوب، والصور المولدة عبره، جعلت من التصديق أمراً مستحيلاً: "لا أحد يصدق شيئاً على الشاشة الآن، لا شيء حقيقياً".

ليس هذا فحسب، بل يشير سكورسيزي إلى السياسات الاقتصادية المتبعة من قبل كبرى استديوهات هوليوود، التي باتت تضع العوائق أمام أولئك الذين يملكون مشروعاً فكرياً حقيقياً، ينبع الشكل منه، وتمهد الطريق لمن يرغب بإنتاج أفلام مذهلة بصرياً وتقنياً، وبميزانيات هائلة أيضاً، الأمر الذي يخالف الهدف من الاستخدام الأول لكاميرا الفيديو، عبر حركة دوغما 95، والمتمثل في تقليص الميزانيات الضخمة.

على أية حال، يبدو أننا أمام واحدة من الحالات القليلة التي يمكن أن يكون الموت فيها خبراً ساراً أيضاً، فما بدا محزناً وقاتماً بالنسبة إلى تارانتينو، كان مبهجاً لغيره من المخرجين الذين عقدوا الآمال على المرحلة المقبلة الحافلة بالتطورات التكنولوجية، ودعوا إلى الإجهاز على السينما التي تلفظ أنفاسها الأخيرة أصلاً، إذ يبتهج المخرج السينمائي البريطاني بيتر غرينواي، واحد من أشهر معلني موت السينما، لفكرة قتل هذه الأخيرة بغية الانتقال إلى الطرف الآخر المضيء من العالم. وذلك عندما أدلى بتصريحات عدّة حول اضمحلال طقس مشاهدة السينما في صلات العرض، مرجعاً السبب في ذلك إلى اختراع جهاز التحكم عام 1983.

من الواضح أن اهتمام غرينواي ينصب بشكل خاص على طقس المشاهدة الجماعي ضمن ما أُطلق عليه مصطلح "السينما المؤسساتية". يتحول الإنسان في هذا التجمع إلى حيوان ليلي، مسمّر إلى كرسيه لمدة ساعتين، ينظر باتجاه واحد فقط بينما يدور العالم من حوله من دون أن يلحظه. السينما الحقّة، بنظر غرينواي، يجب أن تخلق تفاعلاً عبر اعتمادها على الوسائط المتعددة وتطويرها للوسيط القديم، بل ربما نبذه، وإحدى الطرق إلى ذلك تتمثل في صناعة الأفلام الإلكترونية الجديدة التي تفتح الأبواب أمام مفاهيم و"ممارسات سينمائية" جديدة.

فعلاً، برز في الآونة الأخيرة الحديث عن "ما بعد السينمائية"، وهي المرحلة التي تنطوي على تغييرات عدة في الممارسات السينمائية، وتبني وسائط جديدة تشمل أشكالاً مختلفة من البث التلفزيوني والإرسال وألعاب الفيديو، ومؤخراً، أشكال وسائل الإعلام المستندة إلى خدمات البث عبر الإنترنت مثل YouTube وNetflix، وغيرها من المنصات الجديدة التي تستمر بالصعود يومياً.

ليست هذه المرحلة هي مرحلة لاحقة كرونولوجياً لمرحلة السينما، إنما يشير هذا المصطلح إلى أكثر مما هو لحظة تاريخية انتقالية محددة، فترجع الباحثة ميشيل باوتز بدايتها إلى عام 1950، عندما بدأ التلفزيون يكسر تدريجياً "الأنماط الثقافية السائدة" آنذاك.

إضافة إلى ذلك، يؤكد الباحثان، شين دينسون وجوليا ليديا، في كتابهما "وجهات نظر حول ما بعد السينما" إلى أن هذا المصطلح لا يشير إلى اتّباع ما هو جديد من وسائل تقنية فحسب، وهو حتماً لا يفترض قطع الصلات مع ما سبقه، بل هو استخدام شامل للوسائل، بحيث يتم خلق علاقة محاكية، أو ناعية، أو مكملة للسينما في القرن العشرين.

قد تعيد هذه العلاقة الجديدة التي تبنيها "ما بعد السينمائية" مع الأشكال الموروثة للسينما، تشكيل بنية هذه الأخيرة، متحدية رسوخها وثباتها في موروثنا الجماعي، وداعية إلى خلق حساسية معرفية جديدة لدى المتلقي. إن انتقال آليات الإنتاج لتصبح في متناول أيدي الجميع، أزعج عدداً لا حصر له من المخرجين الغيورين على المعايير الفنية، والواضعين أنفسهم حكاماً على "الذائقة العامة"، ما يدفع المخرج ديفيد لينش إلى تطمينهم عند إشارته إلى كيف كان يملك الجميع قلماً وورقة، مع ذلك لم يصنع بهما كثيرون شيئاً ذا قيمة.

يبدو الهوس الحثيث في إيجاد هوية ثابتة ومستمرة للسينما، متناقضاً تماماً مع سمتها الديناميكية، فالسينما "جلد التاريخ"، الذي ما يلبث أن يتشكل حتى يعود ليتقشر مرة أخرى كما يقول أندريه بازان، أحد أبرز نقاد السينما. إن أفق السينما بالنسبة لبازان هو اختفاؤها، وهي بينما تسير في طريقها إلى ذلك، تخضع لمراحل عديدة من النفي وعمليات إعادة التكرير لذاتها وهويتها. وليس هذا التجدد والانبعاث المستمر على هيئات جديدة، إلا تأكيد على أن السينما حية أكثر من أي وقت آخر على حد تعبير فيليب دوبوا، وترسيخ لسؤال "ماهية السينما" ومعضلة هويتها.

المساهمون