محسن البصري: "علينا أن نخاطر بكلّ شيء"

محسن البصري: "إذا لم نخاطر بشيء، فإننا نخاطر بكلّ شيء"

20 فبراير 2019
من "لعزيزة" لمحسن البصري: نسيان الصعوبات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

بعد سبعة أعوام على باكورته "المغضوب عليهم" (2011)، أنجز المخرج المغربيّ محسن البصري (1971) فيلمين اثنين دفعة واحدة، وبشكل مفاجئ: "طفح الكيل"، المعروض لأول مرة في "بوسان الكورية"، و"لعزيزة"، المختار للمسابقة الرسمية للدورة الـ29 (3 ـ 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، قبل مشاركته في الدورة الـ23 (16 ـ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان سينما المؤلّف بالرباط".

"لعزيزة" فيلمٌ ممعن في الشخصانية. هنا تكمن قوّته وضعفه في آن واحد؛ فبقدر ما تمنحه طابعًا حميمًا وتأمّليًا، يأسر القلب بمَشاهد وأحاسيس صادقة، فإنّ انتفاء المسافة الضرورية مع الحكي الناجم عنها يؤدّي إلى اختيارات سردية وإيقاعية تحدّ من نطاقه وقدرته على معانقة أفق أوسع وأكثر طموحًا.

ينبري محسن البصري في "لعزيزة" لفصل مؤثّرٍ في حياته، مع التحاقه بالمدرسة، فتضطرّ أمّه لعزيزة إلى أخذه إلى منزل أبيه، الذي يتركها من دون تفسير وهي حامل به. بعد تقديم مفعم بالغموض والشّك، يُصوّر القسم الثاني الأم وابنها في رحلة تكاد تلتصق بزمن الحكاية. لكن أصالة السّرد تكمن في أنّه يمزج بين الأم في الحاضر وشخصيتها وهي طفلة، من دون إشارات دالّة أو تفسير. خيار جريء بحكم المخاطرة التي ينطوي عليها، يمكّن من إقامة جسور بين طفولة الأم ومعاناتها من جهة أولى (خصوصًا حرمانها من الدرس على خلاف أخيها)، ومصلحة ابنها التي تقتضي الفراق عنه رغم مرارته. هذا التّمزّق، "تعيشه" فاطمة الزهراء بناصر بمهارة ودقّة، بتأديتها الدور بشكل يكتم الأحاسيس، حتى لحظة انفجارها في مشهد الحديقة العامة، وهو مشهد مؤثّر في نهاية الفيلم.

(*) كيف جاءتك فكرة "لعزيزة"؟
ـ زوجتي هي التي دفعتني إلى اتّخاذ القرار. كنتُ أعتقد أن القصّة طويلة للغاية، ولم أكن أريد قول كلّ شيء. زوجتي قالت لي: "احكِ القصّة. ركّز على هذا الجزء من حياتك. الأمر يستحق ذلك، وهذا يعبّر جيدًا عن علاقتك بأمك". لذا، لا أستطيع شُكرها بما فيه الكفاية. آمل أن ينال الفيلم إعجاب أمي، وأن تُسعَد به.

(*) مُدهش أنك أنجزت فيلمين طويلين في الفترة نفسها.
ـ نعم. لكنّي انتظرت ستة أعوام لفعل هذا. "المغضوب عليهم" مُنجز عام 2011. عملتُ على أشياء أخرى، واشتغلتُ على الفيلمين. إطلاق الفيلمين في الفترة نفسها مصادفة.

(*) كيف نظّمت الأمر؟ كنت تعمل على الفيلمين في الوقت نفسه؟
ـ كتبتُ السيناريوهين وطوّرتهما معًا. بمجرد انتهائي من تصوير "لعزيزة"، وكنتُ سأبدأ المونتاج، انطلق تصوير "طفح الكيل". ثم اشتغلت على مونتاج هذا الأخير، وبدأت مرحلة ما بعد إنتاج "لعزيزة". بعد ذلك، تسبّبت صدفة برامج المهرجانات في خروج الفيلمين في الفترة نفسها.

(*) هل كان صعبًا العثور على تمويل "لعزيزة"؟
ـ بحكم أني كنت حاصلاً على دعم "المركز السينمائي المغربي" من أجل "طفح الكيل"، لم يحقّ لي تقديم طلب دعم لتصوير "لعزيزة". فيلمي الأول إنتاجٌ ذاتيٌ أيضًا. أحبّ الحفاظ على الصيغتين: القدرة على صنع الأفلام بالمال العام، وتحقيق أفلام ذات ميزانيات صغيرة خارج المنظومة. لذا، أشكر المنتجة أسماء كريميش، التي واكبتني في فيلمٍ شخصي وغير تجاري كهذا، ووضعت مالها الخاص لإنجاز هذا النوع من السينما.

إذا اعتمدنا كليًا على المنظومة، لن تظلّ سينمانا قائمة. لذا، يجب أن يتعايش نمطا الإنتاج معًا. نحن بحاجة إلى المال للعيش، ولدفع رواتب المتعاونين. لكن، يمكننا أيضًا رواية القصص بطريقة مختلفة، عندما نضطرّ إلى ذلك.

(*) هناك خيار حاسم في الفيلم، يتمثّل بوضع الأحداث في الفترة المعاصرة، بدلاً من إعادة خلق سبعينيات القرن الـ20، وهي فترة عيش طفولتك. 
ـ لو حدّدت الفيلم في فترة السبعينيات، للزمتني ميزانية ضخمة للديكور والسيارات وغيرها. في النهاية، القصّة حميمة، ولعلّ المال كان سيُفسد روحها. لم يسعني تدبّر الأمر على كلّ حال. عندما ناقشت هذا مع منتجة صديقة، قالت لي: "إنْ تحدث القصّة الآن أو منذ 30 عامًا، لن يتغيّر شيئًا. سنكون على القدر نفسه من التأثّر". 

ربما تلاحظ أن لا هاتف محمول في الفيلم، لأني لم أرغب في إدخال هذا العنصر للبقاء في روح الفترة، لكن من دون موقعة الفيلم بشكل واضح فيها.

(*) لكن، ألا تعتقد أن الفيلم لو كان في الماضي، لكان أقوى، ولحَمَلَه الحنين إلى مستوى فني أرقى؟
ـ سأخبرك الحقيقة. عدت للتو من تونس حيث عرض الفيلم في قرطاج في صالات تتسع لـ1500 مُشاهد. رأيت كثيرين يبكون. هناك من أخذني بين يديه وهو يردّد "سلّم على لعزيزة". لذا، لا أعتقد أن المال كان سيُحدث أثرًا ويجعلهم أكثر حساسية. نحن بحاجة إلى المال في السينما، لكننا بحاجة أكبر إلى الصدق. أعتقد أن الفيلم يذهب في هذا المنحى. طبعًا، لديه عيوبه، وأشياء كان يُمكن أن تشتغل أفضل، لكنه يستحق أن يُتنَاول كما هو. أعلم أن كلّ واحد يحقّقه بشكل مختلف. لكن كانت لي علاقة حميمة به. خلال التصوير، كنتُ أبكي طوال الوقت، إلى أن أصبح الأمر أشبه بنكتة. بغضّ النظر عمّا كنّا نصوّره، كنتُ أرى صُوَر حياتي الحقيقية. لذا، حتى الآن، أتجنّب حضور العروض، لأني لا أريد أن أكون عاطفيًا في الصالة عندما أرى ردود فعل المُشاهدين.

كما تعلم، حدث مشهد الحديقة الموجود في نهاية الفيلم في الرباط. أحكي في الفيلم عن أول مرة حدث فيها الرحيل، لكن يجب أن تعرف أن هذه الرحلة ستتكرّر حتى سنّ الـ18. كلّ نهاية عطلة، كانت المغادرة ضرورية.

(*) كان أداء فاطمة الزهراء بن ناصر من نقاط القوة في "لعزيزة"، وكان اختيار إدارتها مع التأكيد على كبح المشاعر حكيم منك لأنها جسّدت الدور بدقّة.
ـ لقائي فاطمة الزهراء بن ناصر، التي مثّلت في "طفح الكيل" (2018) أيضًا، أحد أجمل اللقاءات التي قمت بها في هذا المجال، في المغرب أو في أي مكان آخر. ممثلة من ذهب. عندما رأت أمي الحاجة لعزيزة أني اخترتها لهذا الدور، لم تعد تريد معرفة ماهية القصّة. بالنسبة إليها، يُشرّفها أن تؤدّي هذه الممثلة الرائعة دورها. أصبحتا قريبتين جدًا إحداهما من الأخرى منذ تلك اللحظة. هذه المرأة هديّة من السماء.

(*) هل استغرق مونتاج الفيلم وقتًا طويلاً ؟ لأن هناك شعورًا بأن الفيلم صيغ أولاً أثناء المونتاج، خصوصًا في القسم الثاني، حيث يكاد زمن السرد يعانق زمن الحكاية.
ـ كان هذا المسعى حاضرًا منذ كتابة السيناريو، ولاحقًا أثناء المونتاج. الجزء الصعب هو البحث عن لحظات آسرة تخصّ الطفل. لم يكن سهلاً عليه تمثيل هذا الدور، خصوصًا أنه لم يفعل شيئًا من قبل في السينما. كنا نشتغل بسرعة، وفي ظروف صعبة. كان الجو حارًا جدًا أيضًا، وهذا أتعبه. إذًاً، كان عليّ أن أختار، وأن أجد اللحظات الجيدة مع النظرة المناسبة. يقتضي الأمر إيجاد توازن معقّد للقبض على إيقاع هذه الرحلة، حيث يبدو الزمن معلّقًا كعقارب ساعة متوقّفة.

(*) هناك اختيار آخر حاسم، يتمثّل بدمج مقاطع من حياة لعزيزة عندما كانت طفلة. أحيانًا يتعلّق الأمر بأحلام أو بهواجس يقظة. كيف قرّرت ذلك، وحسمت في المفاصل بين هذا الجانب وبقية القصة؟
ـ هذا مطروح عليّ منذ الكتابة. فكرت طويلاً في كيفية القيام بذلك. في السينما، لا أحبّ الـ"فلاش باك" إطلاقًا. أشعر أنها طريقة سهلة، لا أريد اللجوء إليها. في حالة والدتي، لا تزال الطفلة حاضرةً في داخلها. في علم النفس، يُسمّى هذا "الطفل الداخلي". هذه نقطة أمضيت معظم وقتي فيها أثناء الكتابة. كيف أمثّل هذا الطفل الداخلي؟ أخيرًا، قلت لنفسي: بما أنها لا تزال حاضرة، فلنصوّرها كما لو كانت شخصية مختلفة عن الأم.

لم تكن الطفلة تعرف أنها تؤدّي دور لعزيزة طفلةً. كانت تؤدّي كما لو أنها ابنتها نوعًا ما. لم أشرح الموقف لها. أما فاطمة الزهراء، فاكتشفت الأمور شيئًا فشيئًا، لأنها ليست من النوع الذي يقرأ السيناريوهات. كنت بحاجة إلى أن تتعايش هاتان الشخصيتان إحداهما مع الأخرى. أن تتلامسا، وأن تحدِّث إحداهما الأخرى في وقت معيّن. لأن هذا الجانب، بالنسبة إلي، لا يتعلّق بمجرد أفكار، أو ذكريات من الماضي بالمعنى التقليدي، بل بحضور.

(*) هناك مخاطرة خضتها بدفعك الغموض إلى أقصى حدّ، حول هذه النقطة.
ـ في الواقع، لم أكن أرغب أبدًا في شرح الأشياء، وفي الوقت نفسه، لم أرد الوقوع في المخطَّط، لأن "لعزيزة" ليس من النوع الذي يأخذ المُشاهد في مسارات خاطئة، قبل مفاجأته بحقيقة مغايرة. هذا ليس الهدف من اللعبة إطلاقًا. أردتُ من المُشاهد ألاّ يميّز أن الأمر يتعلّق بلعزيزة طفلة، لكن أن يشعر بذلك. أن يقول لنفسه بطريقة حسية تقريبًا: "لماذا لا أزال أتساءل. طبعًا إنّها هي". أن يصبح ذلك بديهيًا كالإحساس، وليس عن طريق التفكير.

أتيحت لي فرصة التّحدث مع مُشاهدين في تونس. كان مثيرًا للاهتمام أن أعرف متى أدرك كل واحد منهم هذا. هناك من اكتشفوه باكرًا جدًا. وهناك من خرج من الصالة، ثم عاد قائلاً لنفسه: "لا. إنها حقًا هي نفسها". كان يهمّني معرفة متى يشعر المُشاهد بهذا. أرغب في أن يعيش المُشاهد التجربة، وأن يستشعر الطفل القابع في داخله أيضًا.

(*) هذا يدلّ على أن السينما لا يمكنها الاستغناء عن المخاطرة. عندما لا نخاطر بأيّ شيء، نحصل على لا شيء.
ـ نعم، إذا لم نخاطر بأيّ شيء، فإننا نخاطر بكلّ شيء.

(*) كم دام التصوير؟
ـ بين 9 و 10 أيام.

(*) هذا تحدٍّ حقيقي.
ـ كان ذلك ممكنًا بفضل زكريا عاطفي، الـ"ريجيسور" ومدير الإنتاج والممثل (في "لعزيزة") ومساعد المخرج. كان حريصًا على أنّ يُصوَّر الفيلم في هذا الوقت القصير بإعداد المتطلبات كلّها.

(*) هل كان صعبًا التصوير في الحافلة، أحد أفضل مَشاهد الفيلم، عندما نرى فاطمة الزهراء من الخارج، لكننا، أكثر من أي وقت مضى، ننغمس في شعورها الداخلي.
ـ نعم، هذه صورة الملصق أيضًا. أثناء التصوير، الأمور تتعقّد دائمًا. لكني أُسعد عندما يخبرني شخص مثلك بشيء من هذا القبيل. يمحو هذا كلّ التّعب الذي عانيناه لتنفيذ المشهد. سحر السينما يكمن في نسيان الصعوبات الفنية والمتاعب التقنية كلّها، ونبقى مع الصورة.

المساهمون