"بيكار بيروت": حين تصبح الموسيقى أيديولوجيا

"بيكار بيروت": حين تصبح الموسيقى أيديولوجيا

02 فبراير 2019
فرقة "بيكار بيروت" (العربي الجديد)
+ الخط -
مع ازدياد البرامج التكنولوجية المحسنة للأصوات، كثُر المؤدّون، وباتت الموسيقى التراثية تُقاسي من الاختفاء التدريجي لقيمتها في العالم العربي. ففيما تعاني موسيقانا العربية الأصيلة من أكثر من مجرد قرصنة للأعمال، وتدهور للألحان، كانت الحاجة للابتعاد عن التجارة في الفنّ، مصدراً لإلهام خمسة موسيقيين محترفين بيارتة، ليؤسسوا جوقة ثقافية تحت اسم "بيكار بيروت".

الشهرة صناعة إنتاجية
لا أحد يستطيع المبالغة في مدى تأثير رجال الأعمال وشركاتهم، والتي تركز بشكل كبير على تحديد ما هو رائج، من خلال التلاعب الساخر في تكرار عدد قليل ومحدد من الأغاني الفردية بشكل متواصل، من دون طرح أنواع متعددة تناسب جميع الأذواق. كما أن لا أحد يستطيع نكران استبدال روح الموسيقى والتقليل من أهمية العازفين اليوم، حتى أصبحت الشهرة صناعة إنتاجية، لا تعتمد كل الاعتماد على الموهبة، إلى أن عاصرنا نماذج جديدة لما بات يُعتبر طرباً في الاقتصاد الموسيقي الجديد الذي يقيس النجاح بعدد المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة الصفراء التي تلاحق الفنانين والفنانات إلى خصوصياتهم.

عائلات بيروتية
فكانت الحاجة ملحّة لظهور مواهب شابة معاصرة استثنائية، تعيد العصر الذهبي الذي نحن بأمسّ الحاجة إليه اليوم. وفي عصر النقرات المُقاسة، إذْ أدت الشركات الإنتاجية إلى إضفاء الطابع التجاري والمؤسسي على الموسيقى العربية وإلى إعاقة المشاركة الهادفة مع الموسيقى الفنية وإحباطها، اختارت تلميذة المعهد العالي للموسيقى في لبنان "الكونسرفاتوار" المطربة، هالة رمضان، تأسيس جوقة تجمع بين أصدقاء عمرها من العائلات البيروتية "عيتاني، كلش، إسطنبولي، بعيون" لمحاربة النمطية وإعادة إحياء الفن الجميل. وفي سؤالنا عن مسار مهنتهم في العصر الرقمي، أكدت هالة أن جمالية الموسيقى قد "انخفضت" لأسباب غير واضحة المعالم والتفاصيل. ثم أكملت "وبالموسيقى، لا أعني الأغنيات الشائعة حالياً، والتي تُبث على مسامع المستمع العربي، وأثير الراديوهات التجارية، بل أعني موسيقى أم كلثوم ووديع الصافي وصباح فخري ونجاح سلام وفيروز وصباح وفريد الأطرش". وأضافت: "أعني بعبارة أخرى، الموسيقى كما تم تعريفها واعتبارها قبل أربعة أو خمسة عقود، عندما كانت فنّاً جمالياً ولوحة نحتفي بها". وعن اسم الفرقة، شرحت أنها تحمل أول حرف من أسماء عائلات أعضاء الفرقة مجتمعين، والذين رأوا في بيروت مركزاً لدائرة الموسيقى التي سيرسمها بيكارهم لتمتدّ إلى كل العالم العربي.


كما أنّ الصداقة التي جمعت المطرب توفيق كلش مع هالة لسنوات عدة في المعهد الموسيقي، جعلتهم متقاربين فكرياً يضعون نصب أعينهم هدفاً واحداً وهو "الموسيقى الراقية" على حد تعبيره. فبدأت الفرقة باجتماعات عفويّة أولاً، انتهت بتحديد هويّة تلك اللقاءات إلى جوقة فاعلة ثقافياً، تعيد إنعاش كل ما هو جميل. وبرأي كلش "يجب على أولئك الذين يهتمون بمستقبل قطاع الموسيقى أن يقضوا وقتًا أقل في الشكوى من الاضطرابات الرقمية، وأن ينفقوا المزيد من الطاقة لرفع وعي الجمهور بالموسيقى العربيّة التراثية الجادة".

البحث عن روح الأصالة
بالنسبة له، صوتنا هو أغلى ما نملك، وصوته هو آلته المفضّلة التي لا قمع فيها للإبداع، وسلاحه الذي يوظّفه في "بيكار بيروت"، لإعادة أرض الموسيقى المحتلّة حالياً من قبل غير المحترفين. أما العوّاد وعازف البزق، جاد بعيون، فكانت الموسيقى له بمثابة تعويذة عاطفية ساعدته على التأقلم مع محيطه والاندماج، بما أنه عانى منذ الصغر من إعاقة بصريّة، ومشاكل عصيبة في نظره. ففي حين فقد التعبير عن مشاعره، كانت الآلات الوترية جزءاً من جسده، وأطرافاً يستخدمها للحوار، ولعكس جوهره إلى مرأى الناس. وفي حديثه مع "العربي الجديد"، عبّر بعيون لنا كيف أن الموسيقى التراثية ترتبط بشكل مبالغ في تكويننا الرمزي والفلسفي والعروبي. ولأنه تم التقليل من شأن هذه المواضيع في الصحافة العامة أو التلفاز، فإن قدرتنا الجماعية على الارتباط بالموسيقى العربيّة العريقة المعروفة بالشّرقية، من خلال عدسة إنسانية قد انحلّت. وأضاف بعيون: "كعضو فاعل في بيكار بيروت، أرجو مساعدة أقراني في شفاء تعب أرواحهم من حياتنا اليومية في لبنان الذي يحوّلنا شيئا فشيئاً الى روبوتات".



أما عازف وضابط الإيقاع، محمد عيتاني، وهو أب لثلاثة صبيان، فلا يتخذ الموسيقى هواية، بل تتمحور حياته العمليّة على العزف مع فنانين مشهورين، إذْ أصرّ على أن كل شيء يبدأ، أو ينتهي، في المدرسة! مثل أي لغة أخرى، يتم استيعاب القواعد والبنود والبنية الموسيقية بسهولة من قبل صغار العمر والشباب. وهنا يرى عيتاني أنه مع اقتطاع حصص الموسيقى من أكثر من نصف مدارس لبنان، ابتعدت السعادة الغامرة التي يمنحنا إياها اللحن عن قلوب الجيل الحالي، وابتعدت آذانهم عن التذوّق، فباتوا لا يعرفون اختيار الجميل من القبيح. لهذا انضمّ عيتاني إلى جوقة "بيكار بيروت"، انطلاقاً من مبدأ ألّا تقتصر بصمته الموسيقية في لبنان على مرافقته للمطربين في حفلاتهم المدفوعة، بل إضفاء روح الأصالة على ما يقوم به، آملاً إضافته الشخصيّة إلى قضية قيمة الموسيقى في ثقافتنا.

دلالات

المساهمون