هناك... وهنا ـ الآن

هناك... وهنا ـ الآن

18 فبراير 2019
المجري لازلو نمس: بحثٌ دائم في الذاكرة (فيسبوك)
+ الخط -
تنهل سينمات كثيرة في العالم من تاريخ بلادها. تعود إلى الماضي دائمًا، فالماضي يحمل أسئلة معلّقة، وإنْ يتصالح أبناء البلاد مع جوانب كثيرة منه في راهنِ عيشهم. تأخذ من ذاكرتها وذكريات شعوبها حكايات وأحوالاً، وتُقدّمها في صُوَرٍ، يُسقَط بعضُها على هذا الراهن، ويُحافِظ بعضُها الآخر على أزمنة حكاياته وأحواله.

بهذا، تبدو السينما غير مُتعَبَة من التاريخ. فغير المرويّ والموثّق فيه كثيرٌ، والسينما محتاجة إلى ما يُحرِّض على التذكّر والتنبّه. العالم برمّته، خصوصًا تلك الدول المعروفة بكونها صانعة سينما، يريد التاريخ حاضرًا في وجدان وعقل وإحساس، لكن من دون بكائيات. لن تكون السينما درسًا في التاريخ، بل تحريضًا على حياة وعيش وتساؤل وإدراك وتفكير. لن تكون أقلّ من انعكاسٍ لمسائل وتفاصيل وقصص ومشاعر، لكنها لن تخرج من إطار إبداعي في قراءة هذا كلّه (أو هكذا يتوجّب عليها). العالم برمّته يذهب إلى تاريخه للاستفادة، والسينما ترافقه أحيانًا كي تقرأ بعيدًا عن التلقين، وكي تتأمّل بعيدًا عن جفاف علم وتنقيب، وكي تروي بعيدًا عن قسوة وقائع وحقائق، وإنْ تضع الوقائع والحقائق، بقسوتها، في قوالب باهرة من الصُوَر والإضاءة والتوليف والسرد والأداء والمعاينة.

هذا يحدث في سينمات العالم. لكن دولاً عربيّة تحول دون عودة كهذه، رغم أن لها صناعة سينمائية بديعة، غالبًا. تبني أسوارًا لتمنع ذاكرتها من التسلّل إلى أجيال وأجيال. ترفع جدرانًا لتسجن ماضيها في النسيان. الماضي يُمكن أن يكون قاتلاً، والمتحكّمين بالسلطات يُدركون هذا فيُقيمون حدودًا بينه وبين الجميع. مع هذا، يتمكّن سينمائيون من كسر الحصار، فيخترقون الممنوع، ويفتحون ولو نافذة صغيرة لإطلالة مطلوبة على ماضٍ مغلّف بأكاذيب وموانع سلطوية. ينتفضون فيثقبون الجدار بأفلام تستقي حكاياتها من ذاكرة وتاريخ، يُفترض بهما ألا يتحوّلا إلى أطلال للوقوف أمامها، ولا أن يبقيا في الماضي والندب عليه.

لن تُطالَب السينما بالبقاء "هناك"، فالـ"هنا ـ الآن" ثريٌّ بحكايات وأحوال محتاجة إلى قراءة وتأمّل ومقاربة. سينمات العالم لن تملّ من العودة إلى "هناك"، كي تتحسّن رؤية الـ"هنا ـ الآن". سينمات العالم غير منفضّة عن تاريخ وذاكرة، وأفلامها المعنية بهذين التاريخ والذاكرة غير ممنوعة البتّة. والـ"هنا ـ الآن"، بالنسبة إليها مهم كـ"هناك" والعودة إليه. إحدى فضائل السينما العربية كامنةٌ في قدرتها الجمالية الهائلة على التنقيب في تاريخ بلادها وذاكرة شعوبها، لكن مأزقها متمثّل بالمنع والقمع والرفض، وغالبًا ما ينبثق هذا كلّه من أناسٍ كثيرين يرون العودة شبحًا يجب قتله، وكابوسًا يجب التخلّص منه، والقتل والتخلّص متأتيان من عدم الذهاب إلى "هناك"، وعدم التنقيب في الـ"هنا ـ الآن"، في الوقت نفسه. المنع والقمع والرفض مسائل مشتركة بين سلطات واجتماع وجماعات وأفراد، وأيضًا بين بعض ثقافة وكثيرٍ من الإعلام.

أفلام عربية عديدة تعاند سلبيات كهذه، رغم أنها غير قادرة على إشراك الناس بسردياتها السينمائية. هذا واقع. هذا مأزق أيضًا.

المساهمون