مسلسل "يو": المراقبة السائلة ورعب ما بعد الحداثة

مسلسل "يو": المراقبة السائلة ورعب ما بعد الحداثة

18 فبراير 2019
الممثلة إليزابيث لايل في المسلسل (لايف تايم)
+ الخط -
مسلسل You أو "أنت" هو مسلسل إثارة سيكولوجي أميركي، من تطوير غريغ بيرلانتي وسيرا غامبل، ويبنى موسمه الأول على رواية بالاسم نفسه للكاتبة كارولين كيبْنِسْ (من سلسلة بالاسم نفسه)، التي حققت أعلى المبيعات عند نشرها عام 2014، ويجري العمل الآن على الموسم الثاني، المبني على الكتاب الثاني من السلسلة؛ جثث مخفية (Hidden Bodies). عُرض المسلسل لأول مرة على قناة "لايف تايم" في الخامس من سبتمبر/ أيلول 2018، وانتقل إلى "نتفليكس" كأحد مسلسلاتها الأصلية في السادس والعشرين من ديسمبر/ أيلول من نفس العام.

تدور قصة المسلسل حول شخصية جو غولدبرغ (بين بادغلي) مدير المكتبة، الذي يقع في حب فتاة تدخل مكتبته. ومن أول نظرة يبدأ بعدها بتعقبها وملاحقتها (stalking) عبر الطيف الرقمي، مستخدمًا كل وسائل التواصل الاجتماعية المتاحة، ومطّلعًا على كافة البيانات التي تساعده في فهم وتفكيك شخصيتها. في سلسلة من الكتب التي حاول من خلالها زيغمونت باومنت، تفكيك ما بعد الحداثة كاشفًا أهم أعراضها وأمراضها، التي وجدت المنافذ المواتية من أجل التسرب إلى المجتمعات الحديثة، كان هناك كتاب "المراقبة السائلة" وهو كتاب حواري مع ديفيد ليون، وتطرق فيه الكاتب إلى أشكال المراقبة الجديدة، وكيف صارت في متناول الجميع ولم تعد حكرًا على الدولة أو من مسؤوليتها.

وضمن تعريفه للمراقبة السائلة، أوضح باومنت أن المراقبة لم تعد مجرد كاميرا على رأس الشارع، بل صار الضحية/ المُراقَب نفسه هو من يتطوع ويشارك ويمنح الآخرين معلومات عنه عبر نشرها في المواقع الإلكترونية، التي يسهل على الآخرين العثور عليها عبر استخدام المواقع نفسها وتطبيقات الهاتف المحمول وغيرها. وباختصار وكما عرّفتها هبة رؤوف عزّت، فإن المراقبة السائلة هي: "منظومة متابعة وتعقب وتتبع وفرز وفحص ورصد ممنهج.. واستهداف". هنا تمامًا تدور الحبكة الرئيسية للمسلسل. كانت شخصية غوينفير بيك (إليزابيث لايل) ضحية (وكلمة ضحية ليست مبالغة) لمدير المكتبة جو، الذي سرق في وقت لاحق من المسلسل هاتفها بطريقة مخادعة، ليصير بعدها مُطَّلعًا على كل بياناتها ورسائلها واتصالاتها عبر أبل آي كلاود  Apple Cloud. هنا يتناول المسلسل قضية التخزين السحابي، وكيف صارت حياتنا بأكملها على الإنترنت وكل تفضيلاتنا، إذ صرنا نسمع أغانينا المفضلة على مواقع مثل الساوند كلاود واليوتيوب (نشر التفضيلات)، ونشتري عبر مواقع الإنترنت (معرفة مشترياتنا وتحليلها) وصرنا نكتب على المستندات الرقمية مثل مستندات غوغل، ونقرأ ونسجّل قراءاتنا على مواقع مثل Goodreads وغيرها من الأدوات التي جعلت لنا وجودًا رقميًا موازيًا تمامًا لوجودنا الحقيقي، ولكن الفرق هو إتاحة تحليل ومراقبة مثل هذه البيانات والوجود الإلكتروني.

تطبيع مع الجريمة أم كوميديا سوداء؟

تضاربت الآراء حول المسلسل فيما لو كان يعمل على جعل فعل التعقّب والملاحقة رومانسياً، أو إذا ما كان يقدم سخرية/كوميديا سوداء بالمقام الأول. بالنسبة للمشاهد، لم يكن الأمر واضحًا، إذ كان المسلسل يُروى بشكل رئيسي من وجهة نظر المدير، الذي لم يكن ليتوقف عن فعل أي شيء في محاولته للفوز بقلب بيك بأي طريقة ممكنة، وعن طريق التخلص من أي عائق قد يقف في الطريق (صديق/ حبيب صادق/ منتقد)، حتى لو وصل الأمر به إلى القتل، وهو ما حصل. حيث لاحق جو كل شخص قد يُشكل تهديدًا على علاقته (المتوقعة/ المستقبلية) مع بيك، وتخلّص منه، أي قتله، وواصل حياته كأن شيئًا لم يكن. لا يقدّم المسلسل أي تبريرات أو أي صراعات أخلاقية حول فعل القتل، أو حتى الجرائم العديدة الأخرى التي يرتكبها جو، وهذا بخلاف المسلسلات التي تكون من وجهة نظر مجرمين عادة، مثل والتر وايت في "بريكنغ باد" أو "ديكستر". كل فعل يقوم به وكل جريمة تحدث، يكونان فقط لدواعي غرورية تملّكية عند شخصية جو، فهو يسعى بالمقام الأول للسيطرة على شخصية بيك، وأن يكون هو المؤثر والفاعل الوحيد في حياتها. ويمكن التماس تبرير صغير لا يرقى لدرجة التبرير، عندما قتل جو لأول مرة، وأخبره صاحب المكتبة: "لعله يستحق الموت"، واتخذ من هذه الجملة ديدناً له، بأن كل شخص قتله من وجهة نظره هو شخص سيئ ويستحق الموت (عدالة الشارع)، وكل شيء يقوم به هو لصالح الفتاة التي يلاحقها.



هل جُنّ جنون العالم؟

على الرغم من أن المسلسل يروي قصة رومانسية - كوميدية عادية، إلا أنه حقق نجاحًا عالميًا، وحسب نتفليكس، فإن أكثر من 40 مليون حساب قد شاهد المسلسل على الموقع، وطبعًا هناك ملايين المشاهدات خارج المنصّة. لماذا إذًا نجح المسلسل في الوصول لهذه القاعدة؟ السبب واضح وصريح، روى المسلسل قصة رومانسية - كوميدية عادية مثل كل القصص المبتذلة التي نشاهدها في هوليوود، ولكنه خلطها مع فعل التعقب والملاحقة والجريمة، وشعر الناس بالقرب من المسلسل بالمقام الأول بأنه يخاطبهم بضمير المفرد (أنت "You")، ولأن أشكال المراقبة السائلة الموجودة في المسلسل ليست ببعيدة عن الواقع أبدًا، وإنما هي أشكال نحن نستخدمها ونتطوع نحن بنشر بياناتنا ومعلوماتنا على الإنترنت، ما يتيح للآخرين الاطلاع عليها ويعطيهم الحق في "إطلاق الأحكام" علينا بناءً على الهوية التي نبنيها هناك. وأيضًا من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في انتشار المسلسل هو أنه تحفة فنية من ناحية السرد والرواية، فالأحداث مترابطة جدًا، وكل تفصيل صغير يكون مرتبطًا بحدث من أحداث المسلسل، ما يعطيه أحد سمات المسلسلات البوليسية، إذ تكون كل خيوط المسلسل مترابطة دون أي خلل.

دلالات

المساهمون