"صوت" كورال الفيحاء وأميمة الخليل... مُفرد بصيغة الجمع

"صوت" كورال الفيحاء وأميمة الخليل... مُفرد بصيغة الجمع

17 فبراير 2019
(فلافيا جوسكا بشارة)
+ الخط -
الغناء جماعةً فنٌ في الحياة، قبل أن يكون فنّاً في الغناء. وكورال الفيحاء، بإشراف بركيف تسلاكيان، نموذج راقٍ ورائد في ذلك. يُعيد وصل ما انقطع من إرثِ عصور في الترتيل الجماعي، عند الكنائس الشرقية السريانية والبيزنطية، وفي المدائح والأذكار النبوية. منتوجٌ يتمثّل في حاصل عملٍ دؤوب ومتّسق، مسموع في طيّات ائتلاف ألحانه، وبين طبقات أصوات فتياته وشبّانه. تجمعهم، في ما تبدو، أواصر ألفة وطول عشرة ستبقى، حتى بتغيرّ أطقمه وتبدل أعضائه.

الكورال ابن طرابلس لبنان؛ الضلع الغربي المُشكِّل، التئاماً مع كل من الموصل وحلب، لذلك المثلث الحضاري الفريد إبان عصر الدولة الحمدانية في القرن العاشر الميلادي. من وإلى هناك أتى الشعراء وأقطاب الموسيقى والغناء، زمانَ عمّرت المدن مكتبات وشيّدت فيها الصروح، كما اشتهرت بطيّب الشراب والطعام. اليوم، سوّيَت كل من الموصل وحلب بالتراب، لم تبق سوى طرابلس لوحدها بين الخراب، مستقرّةً، وإن على كفّ عفريت.

إصدار ألبوم "صوت" باكورةُ عدة أعوام من التحضير والتدبير، ألحانه لمارسيل خليفة، توزيعها لإدوارد كوريكيان، ليس فيه من آلات تعزف، ولا طبول تُقرع، وحدها السيدة أميمة الخليل تغني، فيما كورال الفيحاء يُصاحب.

في بادرة جريئة، وخطوة جديدة، تُثري المشهد الفني العربي، كما تنوّع وتُضيف على ما يُتدوال في سوقه الموسيقية. الكلمات باقة من قصائد لنخبة من الشعراء، لا تُغنَّى كما هي فقط، وإنما توظّف كعناصرَ ومكوّنات شكلية وإيقاعية، تدخل على كل من التلحين والتوزيع الموسيقيين.

يضمّ العمل 11 أغنيةً؛ هي "عتبات الثلج" لـ إلياس لحود، و"ساعة" لـ جوزف حرب، و"يا حبيبي" لـ منصور الرحباني، و"موشّح" لـ عبيدو باشا، و"آه محلاك" لـ طلال حيدر، و"أن تحبّ" لـ مروان مخول، و"رحلة في العيون" لـ نزار قبّاني و"سُليمى" من نشيد الأنشاد، و"شو صار" لـ بطرس روحانا، و"غداً" لـ زاهي وهبي، و"أُصغي" لـ محمود درويش.

تغلب على الأسلوبية سمة الحركيّة من باب البوليفونية؛ أي تعدد الأصوات. الجمل قصيرة، والمواصلات بينها متواترة ومتوتّرة. قد يُريح هذا حناجر المُغنين قليلاً، فلا يضطرّون إلى حبس الأنفاس طويلاً، إلا أنه، وفي المقابل، يُتعب المستمع، فضيق المساحات الصوتية، وقصر الألحان، لا يُتيح للتآلفات الهارمونية المجال للانصهار والانحلال، كي تُفرّغ شحناتها الحسيّة في القلوب والآذان، فتستكين لها الروح ويستريح بها الوجدان.

تتجلى تلك "العجقة" مرّات في توظيف الأصوات كإيقاعات، وهو نمط مألوف في الكتابة الموسيقية للكورال المنفرد، تتجلى فيه وبه، مهارات المُغنّين، وتضيف على المنتوج مسموعَ الرشاقة والحيوية.

في معالجة المقامات التي تحمل بُعيدات شرقية، كالراست والسيغا والبيات، يُلجأ إلى اعتماد التآلفات شبه التامة والمطلقة، كالرابعات والخامسات، في محاكاة لتقليدٍ قديم ميّز الجوقات الشعبية لمناطق البلقان وشرق أوروبا، حيث الألحان مقاميّة، تدخل في نسيجها البُعيدات النسبية.

يؤدي الإكثار من تلك العلاجات الهارمونية، إلى توتير الأجواء السمعية، على حساب الروحانية التي ينشدها قاصد الغناء الجماعي غير المُصاحب، بشكليه الديني والدنيوي. يتناهى صوت الكورال حاداً ونافراً. يكاد، مرّات، أن يطغى على أميمة؛ حيث قوة صوتها الفريد تكمن في ضعفه، بالرغم من دفئه وسعته، هي كمن يُغني من على حافة الهاوية، مما يزيد من إنسانيته ووجدانيّته. لذا، أثّرت أميمة في الناس عميقاً حين غنّت وحيدةً، أو حين احتضن صوتها عود مارسيل.

لعل ترطيب الأصوات بإضافة الصدى، كان من شأنه أن يخفف من حدّة الفصل بين السيدة أميمة والكورال، فبيئة التسجيل جافة خانقة ينقصها الأفق والمدى. بغياب الصوت المرتد من على جدران الصالة أو الكنيسة، يغيبُ مكّونٌ، يدخل في نسيج الكورال ويكوّن بيئته الطبيعية. لذا، يُفرد عادةً أثناء التسجيل الحيّ، لاقط خاص لالتقاط جو القاعة وما يحوم فيها من ارتدادات واهتزازات، تضاف إلى المادة أثناء المعالجة، لتعيد الغناء إلى حوض الصوت الطبيعي.

مجالٌ جماليٌ آخر يغيبُ، ألا وهو الصمت. متعلّقٌ، بالضرورة، بالصدى وباتساع المدى. كما أن من شأنه أن يُتيح للكورال التقاط أنفاسه، ومن ثم أداء جملٍ أطول وأكثر اتساعاً. كثيراً ما يهاب الموسيقيّون السكون، بقدر ما يخشى المعماريّون الفراغ، لكن استثماراً رشيداً لكل من الصمت والمساحة، من شأنه أن يؤكد على الحضور الحيّ للمادة، ويفسح أمام المتلقّي مجال التحسّس والتأمل. أتقن المرتّلون الشرقيّون فضيلة الصمت فوظّفوه في اختراق الروح. عندها، يصيرُ الصدى، نسبةً إلى الصوت في المعادلة، إشارة التساوي بين الاثنين، وجسراً للعبور من السكون وإليه.

جاء الإثراء في النواقل على حساب راحة الفواصل، والإكثار من العناصر والتنويعات على حساب الآفاق وسعة المديَات. قد تكون مصدره الخشية على العمل من افتقاره إلى الآلات الموسيقية، واقتصاره على الأصوات البشرية، إلا أن فاقد الشيء لا يُعطيه، بل إن في ذات ذاك الافتقار والاقتصار، تكمن القوة والخصوصية؛ فالحضور يزيدُ بالغياب، والصوت يشتدّ بالصمت، والحركة تُحفَّز بالراحة والسكون، فعلى الكورال غير المُصاحَب تصدق قاعدة؛ خير الغناء ما قلّ ودلّ.

تغلب على الكورال في بعض الأحيان النزعة الديكيّة، فطبيعة الحناجر المتوسطيّة والشرق أوسطية لدى المُغنّين الذكور، إضافةً إلى المخارج الهوائية للحروف العربية، وتقليد الغناء الشرقي المتكئ على الحلق، كل هذا، يزيد من حدّة الصوت وشدّته، ويُخلّ بالتوازن لصالح شباب التينور؛ أي الطبقة الرجّالية المرتفعة، أمام صوت الإناث، فيخشن النسيج وينزع نحو النفور والحدّة، على حساب التجانس والوحدة. حبّذا، هنا، ولو من باب اللباقة الفنيّة، أن يخفّض السادة من حدّة صوتهم، مُفسحين مجالاً أكثر لطفاً أمام أصوات زميلاتهم من الآنسات والسيّدات.

المساهمون