دير أركادي: تاريخ جزيرة كريت اليونانية كُتِب هنا

دير أركادي: تاريخ جزيرة كريت اليونانية كُتِب هنا

01 فبراير 2019
الدير كما يبدو من مدخله الرئيسي (ديميتري نوموف/Getty)
+ الخط -
لا يكتمل تاريخ جزيرة كريت اليونانية من دون دير أركادي. فكل الأحداث التاريخية، وكل الروايات التي حاكتها المخيلة الشعبية للكريتيين، عن جزيرتهم، تبدأ وتنتهي في ذلك الدير الجميل، الواقع جنوب شرق مدينة ريثيمنون، واحدة من المدن الرئيسية على الساحل الشمالي لكريت. 
الطريق إلى الدير من شاطئ مدينة ريثيمنون يستغرق نصف ساعة من القيادة داخل أحياء صغيرة، وطرقات ضيقة، لا تشبه الطابع السياحي التقليدي للمدينة ولا الجزيرة. بيوت صغيرة، متواضعة بأغلبها، متاجر فردية، وسكان أغلبهم من كبار السن. وعلى طول الطريق أسهم ولافتات تشير إلى الطريق الصحيح للوصول إلى الدير.
عند الوصول إلى أركادي، يبدو كل شيء منظما ومعداً لاستقبال السياح: موقف سيارات كبير، عامل استقبال، يستوفي البدل المادي للدخول (3 يورو عن الشخص)، وتزويد الزوار بخارطة للدير وشرح عن كل زاوية فيه، باللغات اليونانية والفرنسية والإنكليزية والروسية. كما أن العامل نفسه جاهز لإعطاء الزائرات ملابس محتشمة لتغطية الكتفين والرجلين قبل الدخول إلى المكان، كما هي الحال في أغلب الأديرة في كريت، واليونان عموماً.
في مواجهة المدخل مباشرة، كنيسة الدير. لا تاريخ دقيقا لبناء الكنيسة، ولا حتى في سجلات الدير التي تلف واحترق قسم كبير منها، لكن الأكيد بحسب ما يقوله الرهبان هناك، أن الدير أنشئ مطلع القرن السادس عشر، وأن الكنيسة كانت أول ما بني فيه.

من الداخل تشبه الكنيسة بجدرانها وأيقوناتها كل الكنائس الأرثوذكسية، وإن كانت هندستها من الخارج بنيت على الطراز الروماني والباروكي. للكنيسة صحنان (المسافة بين الباب والهيكل حيث يقوم الكاهن بخدمة القداس): الصحن الأول سمي باسم القديسين هيلانة وقسطنطين، أما الصحن الثاني فسمُيّ باسم عيد تجلي المسيح.

داخل الكنيسة (العربي الجديد)

داخل الكنيسة يبدو كل شيء تقليدياً، لكن مع الخروج منها وبدء جولة داخل أروقة وطوابق الدير، تبدأ القصة الحقيقية التي جعلت من "أركادي"، يكتب الجزء الكبير من تاريخ كريت.
مع سيطرة العثمانيين على القسم الأكبر من جزيرة كريت سنة 1648 (باستثناء 4 مدن بينها مدينة هيراكليون عاصمة الجزيرة) غادر الرهبان الدير، ولم يعودوا إلا بعد إعلان ولائهم للسلطنة العثمانية. يتناقل الرهبان في الدير، أن السنوات الطويلة التي تلت، كان يتخللها مد وجزر مع العثمانيين. فبنيما كان الدير لا يعاني من تضييقات مباشرة من العثمانيين، كان أهالي الجزيرة، يشكون من بطش العثمانيين، ونقص الطعام. إلى أن انفجر الوضع سنة 1821، بعدما احتل جنود عثمانيون الدير، وسرقوا قسماً كبيراً من الموجودات فيه، لتبدأ في تلك السنة ثورة كريتية ضد السلطنة. لكن هزم أهالي كريت، وقمعت انتفاضتهم، فغادر الرهبان مرة جديدة الدير، وعادوا إليه بعد سنوات قليلة، أيضاً إثر إعلان الطاعة للعثمانيين.


الدير كما يبدو من الخلف (العربي الجديد)

ثم جاء الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1866. وهو اليوم الذي كتب التاريخ الحقيقي لهذه الجزيرة وهذا الدير. فبعد أيام من المعارك بين الكريتيين والعثمانيين، سقط خلالها عدد كبير من سكان الجزيرة، لجأ أهل المدن القريبة للاحتماء في الدير، تحديداً النساء والأطفال، بينما سيج مقاتلون كريتيون الدير، دفاعاً عنه في حال حاول العثمانيون اجتياحه. وفي ذلك اليوم، قدم آلاف الجنود العثمانيين، مع مدافعهم وأسلحتهم، وحاولوا دخول الدير، فشلوا في اليوم الأول. أما في 9 نوفمبر/تشرين الثاني، ففجروا المدخل الرئيسي ودخلوا، بعدما كان قتل عدد كبير من المدافعين عن الدير من المدنيين والرهبان.
وفي أحد الطوابق السفلى، كان قد اختبأ مئات النساء والأطفال مع عدد من الرهبان، ومع سماعهم صوت قدوم العثمانيين إليهم، فجروا براميل من البارود كانت موجودة معهم، فمات هؤلاء جميعا (846 كريتياً) كما ماتت عدد من الجنود العثمانيين. واليوم داخل ما بات يعرف بغرفة البارود، حيث فجر الكريتيون أنفسهم، لوحة تذكارية فيها صور بعض من قضوا في التفجير.


غرفة البارود كما تبدو اليوم (العربي الجديد)

بعد هذه المعركة استمر الوجود العثماني في كريت، وزاد التضييق وزادت المواجهات في الجزيرة. لكن للمرة الأولى تحركت قوى غربية لإنقاذ كريت، بعد سماع خبر تفجير براميل البارود في الدير.
هذه قصة الدير كما يرويها أهالي الجزيرة، وكما ترويها كل تفاصيل الدير. ففي الساحة الخارجية، تفاصيل إضافية تعيدنا إلى العام 1866. إذ في وسط الساحة، تقف شجرة يابسة، وعلى غصونها وجذعها لا تزال تظهر علامات الرصاص من تلك المعركة. وخلف الشجرة من الناحية الجنوبية، بوابة مرممة، يقول الرهبان إنها استخدمت من قبل زملائهم سنة 1866، للهرب وطلب المساعدة بعد محاصرة العثمانيين للدير.

الشجرة التي لا تزال تحمل آثار الرصاص (العربي الجديد)

أما في متحف "أركادي" بطابقيه، فصور متراصة على الحائط لرهبان ومطارنة، ومدنيين شاركوا في القتال، إلى جانب عرض مجموعة من الأسلحة التي استخدمت في تلك المعركة، مع تحية مكتوبة باليونانية وبالإنكليزية لـ"أبطال الاستقلال"، علماً أن الجزيرة وقتها لم تكن جزءاً من اليونان، إذ لم تنضم كريت إلى الدولة اليونانية إلا عام 1913.
يفتح الدير أبوابه كل يوم، لكن في أشهر الصيف يفتح من التاسعة صباحاً حتى الثامنة مساءً بسبب الزيارات السياحية المكثفة، بينما يقفل باقي أشهر السنة عند الساعة الرابعة. وتنظم كل مكاتب السياحة في كريت، زيارات يومية بباصات مخصصة، إلى الدير.
هذه الرواية التاريخية تختلف بين مدينة كريتية وأخرى، وإن كانت تفاصيلها الأساسية مشتركة بينها، يدرسها اليونانيون والكريتيون في المدارس. ففي مدينة ريثيمنون يعيد السكان نفس التفاصيل التي يرويها رهبان الدير، لكن كلما تبتعد عن ريثيمنون، ناحية مدينة خانيا (غرباً)، أو هيراكليون (شرقاً)، تأخذ هذه التفاصيل التاريخية بعداً أكثر ملحمية، فيتحدث البعض عن بطولات أو مواجهات، لا سند تاريخياً مكتوباً لها.
لكن بعيداً عن الملاحم، وبعيداً عن الصراع السياسي ــ الطائفي في تلك الحقبة، يبقى دير أركادي (مع دير بريفيلي الواقع على الساحل الجنوبي لريثيمنون، ويبعد حوالي ساعة عن أركادي) واحدا من أجمل المعالم المعمارية والتاريخية في جزيرة كريت، وسببا رئيسيا لرحلات سنوية، يقوم بها السياح من حول العالم (تحديداً روسيا، وبريطانيا) إلى جزيرة كريت، كبرى الجزر اليونانية.

دلالات

المساهمون