ميكال هوغنآور وعالم اليوم: ذكاء إخراج ومعالجة

ميكال هوغنآور وعالم اليوم: ذكاء إخراج ومعالجة

04 ديسمبر 2019
إليشكا كرينكوفا: كشف المخبّأ والتستّر عليه (يوتيوب)
+ الخط -
إلى موضوعه المهم، يتميّز "نوع خاص من الصمت" (2019)، للتشيكي ميكال هوغنآور (1984)، بتداخل أنواع سينمائية عدة فيه، كالإثارة والتشويق والغموض والدراما الاجتماعية والنفسية. لذا، يصعب تصنيفه، وهذه ليست مشكلة. لكن الدمج كاد يؤدّي إلى ارتباك عام. ولولا ذكاء المخرج ووعيه بالحدود الفاصلة بين الأنواع، لأُصيب فيلمه بالضعف والافتعال والانتحال.

بالإضافة إلى ذلك، هناك وسيلة فنية ضعيفة قليلا، لجأ إليها هوغنآور كـ"فاصلة زمنية": مَشاهد استجواب الفتاة في قسم الشرطة، التي تقطع، وإنْ لدقائق قليلة، تسلسل الأحداث، وتُعطّل انسيابية السرد، لإضفاء غموض وتشويق على المناخ العام، وإبقاء المُشاهِد مشدودا ويقظا، محاولا تفسير الأسئلة المطروحة وتفكيكها. هذه الأداة الفنية كان يُمكنها أن تؤدّي إلى نتيجة عكسية تماما، وتُفقِد المُشاهد استمتاعه بالفيلم، المعروض للمرّة الأولى عالميا في مسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ54 (28 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، والفائز بجائزة "الهرم البرونزي" في المسابقة الدولية الرسمية، للدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". 

نقطة أخرى متعلقة ببناء الفيلم، تختص باللقطات الختامية، التي تظهر فيها معلومات مُوثّقة، ولقطات أرشيفية بالأسود والأبيض لتعذيب طفل. هذا جزء يمكن اعتباره إفسادا لغموض الفيلم وتعقيده. لكن، ولأن "نوع خاص من الصمت" يتأرجح أصلا بين أنواع سينمائية مختلفة، يُفيد المقطع بمعلوماته بتلقّي الفيلم في مستويات مختلفة، أبسطها كامنٌ في سرد دراما اجتماعية واقعية، ذات أحداث حقيقية، والتنبيه من خطر جسيم. المستوى الأعقد، أو الأكثر فنية، كامن في كونه دراما نفسية وفلسفية عن التربية، وتمسّك المرء بمبادئه وإيمانه بها، وبالحرية الشخصية. بين المستويين، يمكن إدراج الاجتماعي والسياسي والثقافي، والديني أولا، مع التأكيد على تنبيه هوغنآور على خطر يُهدّد المجتمع الغربي، وربما يعصف ببنيته، ويتمثّل بأفراد يقودون جماعات، يتناول الفيلم إحداها.

في إطاره العام غير المباشر، حاول فيلم ميكال هوغنآور أن يتقاطع مع قضية اجتماعية وسياسية ونفسية، ودينية أساسا، ومع سلوك تربوي ديني شاذ تمارسه جماعة دينية منتشرة في العالم، اسمها "طائفة القبائل الـ12"، تقول معلومات الفيلم إنّ الشرطة الألمانية هاجمت، في سبتمبر/أيلول 2013، تجمّعين لها، وأنقذت 40 طفلا من أهاليهم. والطائفة تهدف أساسا إلى تنشئة 144 ألف "صبي نقي وصاف"، ليتمكّن المسيح من العودة إلى الأرض. يتمّ ضرب الأطفال عند إظهارهم أدنى بوادر عصيان أو لهو أو مرح، أو خصوصا إظهار عواطف أو انفعالات. ووفقًا لآخر الإحصاءات الصادرة عام 2019، فإن تلك الطائفة تمتلك مزارع عديدة وفنادق ومطاعم وحانات في كندا والولايات المتحدّة الأميركية وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وجمهورية تشيكيا والبرازيل والأرجنتين. ويغلب عليها التزمّت والانغلاق والابتعاد عن المجتمع وروح العصر.

بتمكّن كبير، نسج ميكال هوغنآور عالمه، الذي يُحيل، بصريا وفنيا، إلى عوالم أفلام اليوناني يورغوس لانتيموس، إذْ تدور القصّة، الغامضة والبطيئة والهادئة والمُنظَّمة والمحبوكة تفاصيلها بعناية بالغة، حول الشابّة ميشا (إليشكا كرينكوفا)، التي تترك بلدها (جمهورية تشيكيا) للعمل جليسة أطفال في دولة أوروبية مجهولة. تصل إلى منزل عائلة الطفل سيباستيان (جيكوب يوت)، البالغ من العمر 10 أعوام، والمقيم مع الأب (رويلاند فيرنهوت) والأم (مونيك هندريكس) الهولنديين، اللذين يتحدّثان اللغتين الألمانية بينهما، والإنكليزية مع ميشا. العائلة ثرية، ويتّضح هذا بفضل المنزل وتصميمه، والحي، والحياة المرفّهة التي تعيشها. 
لوهلة، تظهر البرودة في التصرّفات والمُعاملة. يُتَجاوز الأمر قليلا، كنوع من المحافظة على المسافة بين "عائلة طبقية" و"عاملة غريبة" تعمل لديها. لكن والدي سيباستيان يكشفان سريعا عن شخصيتيهما، اللتين تتسمان بالقسوة والسيطرة والحزم. ترى ميشا نفسها في ظلّ نظام منزلي عليها إطاعته. في البداية، يطلبان منها التوقيع على صفحات عديدة، هي لائحة بممنوعات ومحظورات، فحاولت المزاح معهما ببراءة، قائلة: "يتعيّن عليّ إحضار المحامي الخاص بي أولا قبل التوقيع". لكن الدعابة لم تُفهم. روح المرح والسخرية وإبداء عاطفة أو تعاطف، غير موجودة، وغير مقبولة. 

تدريجيا، يستحوذان على مساحات الحرية في حياة ميشا، ويلغيان عالمها الشخصي. هذا كلّه يتمّ بلطف ووِدّ، ومن دون أوامر أو استفزاز. مثلا، الأسهل مناداتها بميا لا بميشا؛ المشروب المرّ الذي يحتسونه على الإفطار كلّ صباح، يفيد تنشيط أجهزة الجسم وخلاياه؛ الخاتم الذي تمنحه الأم لها، لحمايتها من المتطفلين؛ وغيرها. لكن الأفدح والأفظع يتعلّق بطريقتها في التعامل مع سباستيان، وتهذيبه وإصلاحه.

تدافع ميشا عن خصوصيتها واستقلالها، لكنها تتراجع تدريجيا بسبب ضغوط وتهديدات بإنهاء عقدها، وإعادتها إلى بلدها، ثم بسبب اتهامها بعدم معاملة سيباستيان جيدا، ولحاجتها إلى وظيفة، ولأنها غريبة ووحيدة تماما في بلد تجهله وتجهل لغته. هذا يدفعها إلى الاستسلام لهما، واعتياد شذوذهما، خصوصا أنّ الأمور ليست غريبة أو مُريبة أو غير قانونية، كما تظهر. ولا يوجد ما يستدعي وقفة جادة لتأمّله أو للردّ عليه. هناك فقط عائلة غريبة بعض الشيء، تُدير حياتها وشؤونها بطريقة انضباطية مُختلفة وغير معهودة. هذا كلّ ما تراه ميشا.

ترى العائلة أن الديمقراطية غير صالحة للنُظم الأسرية، وأن قدرا كافيا من الألم يؤدّي إلى النتائج المرجوة. لذا، فإنّ الضرب المبرح لسيباستيان على مؤخرته، عقابا أو تأديبا وتهذيبا، الذي تستهجنه ميشا ولا تقوى عليه بداية، يتحوّل مع الوقت إلى أمر عادي بالنسبة إليها، بل إنّها تمارسه بقسوة ملحوظة، لا تتماشى مع شخصيتها وسلوكها الطيب وملامحها البريئة.

هل يمكن للفرد، في ظروف معينة ومواقف محدّدة، أن يمارس أفعالا تتناقض وشخصيته وقيمه وتربيته؟ أسئلة تثيرها شخصية ميشا، بدءا من كيفية استغلالها بها، بل غزوها وتحويلها تدريجيا، من دون وعي منها. هي شابّة مثقّفة ومتعلمة، تتحدّث أكثر من لغة، تستسلم في النهاية، بصرف النظر عن الحاجة المادية أو الضغوط، لتلك العائلة الشاذة، لا سيما بعدما طعنها سيباستيان بسكين، إلى درجة أنّها تواصل عملها لدى العائلة نفسها، بعد استبدال سبياستيان بطفل آخر.

المساهمون