"لا تعبث مع القطط"... من صنع القاتل؟

"لا تعبث مع القطط"... من صنع القاتل؟

24 ديسمبر 2019
لوكا ومطارديه أسرى الشاشات يلاحقون بعضهم بعضاً (نتفليكس)
+ الخط -
بثت نتفليكس مؤخراً سلسلة وثائقيّة بعنوان "لا تعبث مع القطط" (ثلاث حلقات)، نتتبع فيها جهود مجموعة من متصفحي الإنترنت، لمطاردة شخص ينشر فيديوهات يقتل فيها القطط بوسائل وُصفت بالمريضة وشديدة الانحراف، كوضع قطّتين صغيرتين في كيس نايلون وسحب الهواء منه، ويستفز المتابعين. لكن ما يبدو أنّه مجرّد محاولة لإيجاد حكاية تملأ حياة هذه المجموعة، يتحول إلى قصة قاتل هزّت الولايات المتّحدة وكندا وفرنسا، في رحلة بحث القاتل عن الشهرة. 

يبدأ الوثائقي بتعريفنا إلى "بودي موفين"، الاسم الوهمي الذي تستخدمه موظفة في واحد من كازينوهات لاس فيغاس، وتختبئ وراءه بعد أن مرت بانفصال عن صديقها، ما جعلها أكثر انعزالاً. أثناء تصفحها للفيسبوك، يظهر أمامها فيديو باسم "قطتان ورجل"، في إحالة إلى الفيديو الإباحي الشهير، "فتاتان وكأس"، وما أن تضغط على الفيديو حتى تشاهد شاباً، يقوم بقتل قطتين، ليتطوّر الأمر لاحقاً إلى عدد من الفيديوهات التي لا يمكن وصفها إلّا بالمرضيّة المنحرفة.

تجد بودي مجموعة على الفيسبوك لمعرفة هوية هذا القاتل. مجموعة (facebook group)، يعمل أفرادها على جمع الصور والفيديوهات وإرسالها لجمعيات الرفق بالحيوان في سبيل إيقافه، ما دفع القاتل إلى استفزاز المجموعة عبر حسابات وهميّة ينشر من خلالها فيديوهات جديدة، تقوم إثرها المجموعة بعد شهرة القاتل بتتبع وتحليل كل صورة وفيديو لتحديد مكانه. اللافت في الأمر، أنّهم فعلوا ذلك كما لو أنّهم محقّقون محترفون. حاول أعضاء المجموعة التواصل مع الشرطة، إلّا أن الأخيرة لم تأخذهم على محمل الجد، في حين أن القاتل "يلعب" مع المجموعة ويهزأ من أعضائها، ليقرر في النهاية قتل إنسان.


يأخذ الأمر منعطفاً جدياً حين يقوم القاتل، لوكا ماغنوتا، بارتكاب جريمة بحق طالب من أصول آسيوية في مونتريال، ونشر الفيديو على الإنترنت، ثم إرسال جزء من الجثة إلى مقر حزب الليبراليين، وجزء آخر إلى مقر حزب المحافظين. هنا، يأخذ الأمر منحى سياسياً، وجهود المجموعة في تحديد مكانه بين كندا وفرنسا تصل إلى الشرطة، لتبدأ عملية ملاحقة عالميةّ لإلقاء القبض عليه.

لن نشرح تفاصيل تطور القضيّة، لكن ما يهم هو حس المغامرة الذي أصاب المجموعة، وجهودهم الذاتيّة لاكتشاف القاتل عبر التقنيات المتاحة للجميع، كالتحقق من الصور وتتبع المكان، والكم الهائل من المعلومات المتوافرة على الإنترنت، والتي يمكن عبرها تحديد هوية شخص ومكانه. هذا ما يثير القشعريرة أثناء المشاهدة، فيمكن تتبع البصمة الرقميّة التي نتركها في كل ما نفعله، فكل صورة هي وثيقة ذات خصائص يمكن عبرها تقريباً معرفة كل شيء عن محتوياتها، وتاريخ التقاطها.
لفتت جهود المجموعة انتباه لوكا وأصبح يلعب معهم مطبقاً تقنيات فيلم "Catch me if you can". نكتشف، لاحقاً، مدى هوس لوكا ماغنوتا بالنجومية، ويتضح هذا أكثر عبر تركه لرسائل خفية في فيديوهاته، مستمدة من الأفلام كـ"كازابلانكا" و"basic instinct"، ما يكشف لنا عن عمق الاضطراب الذي يمر به لوكا، والذي أدى نهاية إلى إلقاء القبض عليه في برلين وهو يبحث عن صورته على موقع الإنتربول في مقهى إنترنت شعبي.

يحاول الوثائقي الإجابة عن السؤال الذي طرح مؤخراً على شبكة نتفليكس، التي اتُهمت بالاحتفاء بالقتلة المتسلسلين، ونشر قصصهم وتغذي حبهم للانتباه. هل يمثّل هذا الوثائقي جزءاً من هذا التوجه؟ هذا السؤال يطرحه المشاركون في الوثائقي على أنفسهم، فلمَ عليهم أن يحكوا هذه القصة ويشبعوا رغبة لوكا الذي أصبح مشهوراً على مستوى عالميّ؟ يأتي الجواب في النهاية على لسان بودي التي تتوجه للمشاهدين وتقول: "حان وقت إطفاء التلفاز". سبب هذا السؤال هو الشك الذي راود أفراد المجموعة حول صواب جهودهم والاهتمام الذي صبوه على لوكا، والذي يمكن أن يكون المحرك الذي دفعه لفعل ما فعل، ليبق السؤال: "هل نخلق القاتل أم نُغذيه؟".



يطرح الوثائقي تساؤلات عن الطبيعة البشريّة والعلاقات التي نعيشها الآن في ظل انتهاك التكنولوجيا لحياتنا بشكل كليّ، والسعي نحو الظهور والمرئيّة، فالمغامرة وكيفية صناعة الحكاية تكونت عبر ديناميكية العلاقية بين لوكا ومطارديه، وكل الضجة الإعلاميّة كان محركها رغبة بعض الأفراد بإيقاف فرد يقوم بقتل القطط، وما يبدو في البداية بريئاً وإنسانياً أودى بحياة شخص، لكنه أيضاً يحيلنا إلى الاختلافات بين أفراد يعملون بدافع "طيبة القلب"، وآخرين بدافع "الشر"، لكن الجميع لايعملون من وراء شاشاتهم التي يجدون فيها مخرجاً من حياتهم اليومية الرتيبة وربما الكئيبة، وهنا يظهر رأي والدة لوكا التي ترى في أن ما فعلوه لا إنساني، بل وهم من دفع لوكا إلى القيام بذلك، من دون معرفتهم أن له تاريخاً مع الاضطراب النفسي والعنف الجنسيّ.
كل من لوكا ومطارديه أسرى الشاشات يلاحقون بعضهم بعضاً، وهم أشبه بلعبة القط والفأر في الفضاء الافتراضي، يمتلكون خبرة في التعامل مع هذا الفضاء، حتى أن لوكا استغنى عن كل ما يعرّف عنه ورماه بعيداً ليصبح أقرب إلى شبح، وهنا تبرز أهمية التهديد الذي تعرضت له بودي؛ إذ أرسل لها لوكا تسجيلاً من الكازينو الذي تعمل فيه، وكأنه يقول إنه يعلم مكانها وهويتها، ما يتركنا أمام صدمة أخرى، العلاقة بين الافتراضي والحقيقي ليست مجرد "لعبة" أو مزحة سمجة.. بل قد تصبح جريمة.

المساهمون