"طفح الكيل" لمحسن البصري: أسئلة عن كل أجوبة السياسيين

"طفح الكيل" لمحسن البصري: أسئلة عن كل أجوبة السياسيين

12 ديسمبر 2019
تجتمع في المستشفى قصص فساد (المركز السينمائي المغربي)
+ الخط -
يروي المخرج المغربي محسن البصري القصة المباشرة التي ألهمته في فيلم "طفح الكيل" الروائي (86 دقيقة)، حين التقى شاباً مغربياً اسمه أيوب ينوي مغادرة بلاده، فسأله: ألا تحب وطنك؟ قال: هو لا يحبني. يقول المخرج أثناء مناقشة فيلمه ضمن عروض مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان في عمّان، إنه سأل الشاب الذي عينه على بحر سيخوض غماره: هل تتقن السباحة؟ قال: لا. في الفيلم الذي حاز تقديراً لدى جمهور السينما ونقادها، تبدأ الحكاية من محاولة انتحار شاب رمى نفسه من جسر، لكنه يسقط فوق شاحنة أغنام، ليدخل المستشفى ويعالج من بعض الرضوض التي أصابته.
غير أن هذه الشعلة الافتتاحية ستكبر وتسلط الضوء الساطع على أيوب، الطفل الذي تصادف وجوده في السيارة، ضمن طابور سيارات طويل تعطل بسبب حادثة الانتحار الفاشلة على الجسر. تحمل السيارة الطفل أيوب وأباه إدريس (أدى الدور رشيد مصطفى)، وأمه زهرة (فاطمة الزهراء بن ناصر)، القادمين من قرية على البحر، حيث يكتري الزوج قارباً للصيد، ويجني رزقاً شحيحاً. وهنا داخل السيارة يقطعون طريقهم إلى المدينة، لمعرفة سبب الصداع الذي يهاجم رأس طفلهما.
اختار المخرج اسم أيوب الذي لا يتقن السباحة، ويسعى للفرار من بلاده، ومنحه لطفل في فيلم روائي، مهدد بالشلل، ولا يملك فرصة المغامرة لقطع البحر.
يصبح المستشفى عالم الفيلم، وتجتمع فيه قصص عديدة تقع جميعها تحت نير فساد المؤسسات الطبية، وغياب العدالة في توفير الصحة للمواطنين الفقراء، الذين يلجأون إلى المشافي العمومية، فيجدون عناية طبية سيئة، وثقافة راسخة للرشوة.
استطاع المخرج البصري استثمار خبرته في الرياضيات، وهو المدرس الذي ترك منذ خمس سنوات سلك التعليم في سويسرا حيث يقيم، إذ أدار سيناريو محكماً، فجمع كل شخوص الفيلم ليكون "الأبطال" الضحايا حاضرين بقوة، من الكومبارس حتى الطفل أيوب وعائلته. جميعهم في عين الكاميرا، بعدالة فنية مثلت صرخة في وجه العدالة المنتهكة على الأرض.

يحتاج الطفل إلى عملية جراحية تتكلف 80 ألف درهم في مشفى خاص ينبغي أن يحول إليه، لفقر الإمكانات في المشفى الحكومي، وتتصاعد الأحداث إلى ذروة التوتر مع صفقة بيع طفل "غير شرعي"، لعم الطفل، إلى زوجين سويسريين لا ينجبان، بغية توفير المبلغ الكبير، كي يعود أيوب يمشي على ساقيه.
بقيت النهاية مفتوحة. يقول البصري إن مصير أيوب يمكن أن يعالج بحلول درامية سريعة، إما بشفائه أو موته، بيد أنه اختار النهاية المفتوحة، كما اختار الجسر مكان البداية الذي شهد محاولة الانتحار، مكاناً للخاتمة حيث ذهبت الجموع، من المشفى ومن خارجه لتقف على الجسر، تصاحبها أغنية الراب "طفح الكيل" من كلمات الشاعر أحمد مطر.
هكذا أراد البصري أن يقول: إذا كانت البداية مع شاب حاول الانتحار، فما رد فعلك يا وطن إذا ذهب الآلاف إلى الجسر ذاته؟
مثل المستشفى استعارة أعمق من وجهة نظر المخرج، الذي كان بين خيارين أن يكون فيلمه في مستشفى أو مدرسة.
إن جهده في البحث المسبق للحصول على الحساسية الملائمة، قاده إلى أقسام المستعجلات (الطوارئ)، فكان يعاين طوابير الانتظار، واستعان بمجموعة أطباء أجابوا عن أسئلته التي أفادته في ترجمة فكرته القديمة عن البلاد التي تلفظ أبناءها.
من الحظوظ الجيدة للفيلم أن مخرجه عثر على مستشفى مغلق، أعاد تأهيله ودخل فيه العشرات من الكوادر الطبية والتمريضية والمراجعين البؤساء. من الجارح أن ثمة مراجعين صاروا يجيئون إلى المستشفى، ظانين أنه فتح من جديد.
كان أداء الممثلين ممتازاً، وكانت الجموع التي ترصدها الكاميرا، كأنها تعيش واقعها دون تدبير إخراجي، كما نجح الفيلم في تقديم وجبة من الكوميديا السوداء، التي تدفع المشاهد في بؤرة واقعه. فلا يبدو غريباً أن يندلع الصياح في المستشفى لدى متابعة مباراة لبرشلونة، الأمر الذي يخرق تقاليد المستشفيات. لكن الفساد المستشري والاستهانة بحياة الفرد، ليس بيدها أن تحتج على إعطاء موعد طبي لمريض بعد عام أو أكثر، مريض لا يملك الرشوة المطلوبة.
أما الفيديو الذي اطلع عليه البصري، وآلاف غيره، على مواقع التواصل، فكان في غرفة العمليات، حيث يشاهد الكادر الطبي بحماسة مباراة كرة قدم. هذا الفيديو يتقدم في أذاه من الاستهانة إلى الاستباحة.

غادر البصري بلاده وعمره 23 عاماً، وعاش في سويسرا. درس وعمل بدايةً في مطعم. يروي أنه ذات يوم بارد كان متوجهاً إلى عمله، فرأى صورته في الزجاج وسأل: ما الذي أتى بي من بلاد مشمسة إلى هذه البلاد التي ترتجف من البرد؟
كان مسؤولاً عن مجموعة من العاملين الطلبة من مختلف الدول، يحضّرون الماجستير والدكتوراه. وفي فرصة تناول الطعام كان يسألهم: لماذا تركتم دياركم؟ ولاحظ البصري أن الجميع وصفوا يوم حصولهم على الفيزا باليوم المفرح.
يضيف: عدت إلى البيت ومعي زجاجة نبيذ، وبدأت أكتب رسالة إلى المغرب. سألته: لماذا تترك أولادك يغادرونك بينما هم في عمر يستطيعون فيه تعمير بلدهم؟ "كتبت رسالة طويلة، وتركتها. لم أرسلها خوفاً من تعرض أسرتي لمشاكل". يقول.
الانتحار والهجرة يعادلان بعضهما تقريباً، لهذا – حسب قوله - فإن الشاب الذي حاول الانتحار، يمثله شخصياً.
مثل هذا المستشفى قصة عربية بكامل مواصفاتها، من المشرق إلى المغرب. بل إن البصري يتحدث عن مؤسسات طبية فاسدة في العالم، حتى المتقدم منه، مشيراً إلى إحصائية في فرنسا تفيد بأن 30% من الأطباء ندموا على أنهم أصبحوا أطباء. ليست هذه سوى الرأسمالية المتوحشة، مضيفاً أن أكثر ما يضايقه هو أن البنك الدولي يضغط على الدول المدينة لإنقاص ميزانيتي التعليم والصحة. تستجيب الدول، لكن السياسيين لا يكفون "بكل وقاحة" عن إعطاء الوعود بحياة أفضل للعباد.
وفي لغة ساخرة تحدث البصري عن المناصب الإدارية التي تشترى من واحد لواحد، بما يشبه دفع خلوّ المحل، قبل بيعه من طرف لطرف. هذه المناصب هي التي تتيح تلقي الرشى، وجزء منها يذهب لأطراف أخرى في دائرة من الفساد تتشبث بمصالحها بالأظفار. تساءل: لو أن هناك إمكانية لفرض ضرائب على خلوّات مناصب الرشى، لأصبحت دولنا غنية.
يسأل البصري طوال الوقت. يقول إن مهمته أن يسأل لا أن يجيب، مستعيناً بعبارة للمخرج الأميركي وودي آلن، إذ قال عن السياسيين "لدي أسئلة عن كل أجوبتهم".

المساهمون