"جاك آس"... أين اختفى "الحمار"؟

"جاك آس"... أين اختفى "الحمار"؟

10 ديسمبر 2019
ادّعاء الحقيقة الذي تقدمه السلسلة فقد تأثيره أمام الحوادث(Getty)
+ الخط -
انتشرت في بداية الألفية الجديدة سلسلة أفلام "Jack ass- الحمار" التي بثت على شبكة "أم تي في -MTV" بداية، وتحولت بعدها إلى أفلام عرضت في السينما، وبعضها نشر فقط على الأقراص المدمجة، وفيها نشاهد مجموعة من الشبان بقيادة جوني ناكشفيل ينفذون مجموعة من المقالب والمزحات الخطرة لأجل الإضحاك فقط. وبالرغم من وفاة راين دون، أحد العاملين في السلسلة، استمر العمل لفترة قبل أن يتوقف الإنتاج، ويتحول المؤدون فيها، إما إلى ممثلين من الدرجة الثالثة، كحالة جوني ناكشفيل، أو يغرقون في الإدمان كحالة ستيف أُو.
سؤال اختفاء هذه السلسلة من الأفلام أو ندرة الاهتمام بها لا يعود فقط إلى الأذى الجسدي الذي تعرّض له المؤدون ضمنها، والذي هدد حياة بعض منهم، بل إلى الشرط الثقافيّ الذي تغير عبره أسلوب الإضحاك وظهور الخطر على الشاشة، فمفهوم الحوادث الخطرة والأخطاء كان بداية مضحكاً مع مفاهيم "الأخطاء أثناء الأداء التلفزيوني" و"الفيديوهات المنزليّة"، ثم ظهرت سلسلة "مُنع من العرض" التي شكلت رعباً للكثيرين، كونها تجيب عن سؤال ما الذي يحدث لأحدهم إن لم يتمكن من عبور سكة القطار في الوقت المناسب.
قدمت سلسلة الحمار نموذجاً آخر من المخاطر والمقالب، لتجيب عن تساؤلاتنا الطفولية ولذة مشاهدة الألم. صحيح أن من يقومون بهذه المخاطر والمقالب "محترفون"، لكنها بقيت خاضعة للمونتاج والتكرار والمحاولات الفاشلة. ومع هيمنة الإنترنت وإنتاجات الهواة، أولئك المشابهين لنا، ظهرت قنوات اليوتوب المتخصصة كـ "fail army"، التي اختزلت كل ما حول "المقلب" من تجهيزات وتحضيرات، تاركة إيانا أمام تكثيف لمجموعة من الحوادث غير المحسوبة وغير المضبوطة نتائجها. كل يوم مئات الفيديوهات التي تضخ تحوي أناساً وقعوا أو تزحلقوا أو احترقوا من دون أي تدخل "محترف".
يمكن أيضاً القول إننا في عصر الحوادث غير المتوقعة؛ إذ نشهد هواتف تنفجر في اليد، معدات تزحلق تشتعل فيها النيران، وشكلاً جديداً من الأذى والحوادث جعل المزحات التقليديّة أقل "إضحاكاً" أمام من انفجر هاتفه بيده في طائرة، خصوصاً أن الأذى الجسدي لم يعد هو المحرك، ولا شدة الألم، بل عدم التوقع. فمحاولة سلسلة "الحمار" أن تضحكنا عبر وقوف واحد من مؤديها أمام قاذف كرات تينس، متوقع ومدروس، لكن احتراق شعر إحداهن وهي تسرحه أشد "إضحاكاً" وأقل "توقعاً".
لم تستطع سلسلة الحمار أن تخاطب حس الدعابة المنحرف الذي ينمو تدريجياً مع تغير الشروط السياسية والثقافيّة، خصوصاً أننا بسبب الحروب والأنظمة القمعية والجماعات الإرهابيّة أمام شكل جديد من العنف الغروتيسكي، العنف الذي ينفلت فيه الجلد عن اللحم وتتطاير الأشلاء. لا نتحدث هنا عن الأخبار العادية وما تحويه من مشاهد قاسية، بل نقصد تلك التسجيلات التي نجدها إن بحثنا لدقائق أكثر في مواقع الإنترنت، حينها نجد أنفسنا أمام عالم من القسوة "الجدّية" المفرط؛ حيث تفصل وحدة الأجساد ويحترق اللحم، هذا الشكل من "الحوادث" أو "العنف" يرضي رغبات الباحثين عن "مفارقة دمويّة".
الأهم أن ادّعاء الحقيقة الذي تقدمه سلسلة الحمار فقد تأثيره أمام الحوادث المرتجلة التي يلتقطها الهواة وصور الأجساد المعطوبة الناتجة عن العنف السياسيّ، كون مقالب الحمار محاطة بفريق من المختصين، حرصاً على عدم فقدان المؤدين لحياتهم أو تورطهم في عطب دائم، في حين أن العنف السياسي مثلاً يراهن على الرعب الذي يحوي داخله لذة من نوع ما لا تلبيها سلسلة الحمار، كون الرعب هنا لا يستهدف فقط الذين يقع عليهم العنف، بل المشاهدين أنفسهم، فالحوادث التي نراها في الحمار لا يمكن أن تحصل لشخص عادي في سياق عاديّ، في حين أن الحوادث المرتجلة والعنف السياسي يمكن أن يحصلا لأيّ منّا، ضمن أيّ سياق، سواء كان الواحد منا في مساحة ديمقراطية أو قمعيّة.
بالعودة إلى سلسلة "الحمار"، يمكن القول إن حساسيتنا للحادث تغيرت منذ بداية الألفية أمام الكم الهائل من العنف الجدي الذي يملأ الشاشات، العنف الذي يقتحم حياتنا اليوميّة، كما أن سهولة التقاط الحادث ونشره جعلت مقالب الحمار تبدو مبتذلة، أو لا تلبي الحاجة كونها scripted نوعاً ما، كما أن الكثير من النكات والمقالب التي كان ينجزها فريق العمل لا تتماشى مع الصواب السياسيّ الذي يهيمن على الثقافة العالمية؛ فالسخرية والتهكم من البدانة وقصار القامة، تجعل سلسلة الحمار حالياً عرضة لانتقادات ثقافيّة أشدّ من السابق، بل إن بعضها أصبح مجرد إهانات لا تخفي وراءها كوميديا.

المساهمون