كوستا غافراس: تحديفة في بلاد تمضي لكارثة

كوستا غافراس: تحديفة في بلاد تمضي لكارثة

31 أكتوبر 2019
ما الذي دفعه إلى العودة السينمائية؟ (فرانكو أوريغليا/Getty)
+ الخط -
خلال 60 عامًا أمضاها في فرنسا، بعد فراره إليها من بلده اليونان، ببلوغه 19 عامًا، بسبب الأوضاع المرتبكة بين السلطة الحاكمة والمعارضة، لم يعد السينمائي اليوناني الفرنسي كوستا غافراس (1933) إلى بلده، سينمائيًا، إلاّ مرّتين اثنتين، بإنجازه "زد" (1969) و"ناضجون في الغرفة" (2019)، المعروض للمرّة الأولى دوليًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ76 (29 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والذي تبدأ عروضه التجارية الفرنسية في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.

في الأول، المُقتبس عن كتاب بالعنوان نفسه (1967) للكاتب اليوناني فاسيلي فاسيليكوس (1934)، استعاد غافراس ستينيات القرن العشرين، الشاهدة على نزاع حاد بين الشرطة ورجال الأمن من جهة، والشيوعية المتغلغلة في اليونان حينها، بهدف القضاء عليها. وعندما التقى نائب تقدّمي ملقّب بالدكتور زد (إيف مونتان) بأنصاره سلميًا، اعتدى رجال الشرطة والأمن عليهم، وانهالوا بالضرب على الدكتور نفسه، إلى أنْ قُتل بين أيديهم، فكُلّف قاضٍ للتحقيق بالمسألة (جان ـ لوي ترنتينيان)، اكتشف، تدريجيًا، أنّ السلطات العليا في الدولة غير مكتفية بالتمويه على الفعل الجُرمي، بإشاعة خبر مفاده أن الدكتور توفي بسبب حادثة بسيطة، فهي متورّطة بالعملية.
أما الثاني، والمقتبس بدوره عن كتاب بعنوان "حوارات بين ناضجين: في الكواليس السرّية لأوروبا" (2017) للاقتصادي والسياسي اليوناني يانيس فاروفاكيس (1961)، المُعيّن وزيرًا للاقتصاد بين 27 يناير/ كانون الثاني و6 يوليو/ تموز 2015، في حكومة ألكسيس تسيبراس (1974)، فتناول الأزمة الاقتصادية الكبيرة في اليونان، ومحاولات حكومة تسيبراس التصدّي للضغوط الأوروبية (الألمانية تحديدًا) الهائلة عليها.
من 20 فيلماً له، بدأ إنجازها عام 1965 (Compartiment Tueurs)، حضرت اليونان في هذين الفيلمين فقط. قال غافراس إنّ ذلك عائدٌ إلى "لامبالاته" بالبلد منذ فترة طويلة، مُشيرًا إلى أنّه اختار حياة ليعيشها، كما اختارت هي حياة أخرى مختلفة لتعيشها. اليونان أعطته شعورًا بالخرائب والأطلال، فمنذ طفولته، استمع مرارًا إلى والدته التي كانت تردّد أمامه، ناظرة من النافذة إلى الأكروبول: "هذا هو نحن". لذا، فإن حضور الآثار هذا لم يتركه أبدًا، بينما فرنسا منحته وسائل عيشٍ وفهم وإدراك: "النقاشات مع سيمون سينيورييه وإيف مونتان وكريس ماركر وميشال فوكو كانت تُفتُنني"، كما قال في حوار منشور في المجلة الأسبوعية الفرنسية L’OBS (24 أكتوبر/ تشرين الأول 2019). أضاف أنّ هؤلاء أعطوه ما جعله يفهم العالم وأزماته.
مع هذا، اعترف كوستا غافراس أنّ اليونان تبقى البلد الذي له فيها ذاكرة وذكريات، رغم ابتعاده عنها. فهو روى، في الحوار نفسه (فرنسوا فوريستييه)، أنّ جدّه كونستانتينوس، بائع الأحذية، داعب قدم امرأة شابّة في محلّه، أثناء اختيارها حذاء لها، فصفعته صفعة قوية، قبل أن تعود إليه في اليوم التالي، وتُصبح جدّة السينمائيّ. ذكرياته أيام الحرب العالمية الثانية معقودة، مثلاً، على "اكتشافه الحياة" (كما قال) في قرية أرسله والداه إليها بعد نفاد كلّ شيء في بلدتهم. كان في الثامنة من عمره، والجيش الألماني فرّغ المحلات من المأكل والمشرب. تذكّر أنّ الطرقات هناك وعرة جدًا، إلى درجة أنّ الجنود غير قادرين على التنقّل عليها بآلياتهم العسكرية. قال إنّ والده كان منتميًا إلى المُقاومة، وضد الملكية بقوّة، "لأنّ الملك خاض الحرب في آسيا الصغرى".
لكن، ما الذي دفعه إلى العودة السينمائية إلى اليونان، بعد نحو 30 عامًا على "زد"؟ تقول الحكاية إنّ كوستا غافراس التقى، ذات يوم من أيام عام 2007 (أي قبل عام واحد فقط على الأزمة المالية العالمية)، بيريكليس نيرشو، السفير القبرصي في باريس، الذي أخبره أنّ "البلد ذاهب إلى الكارثة". اعترف غافراس أنّه اعتبر كلامًا كهذا مُبالَغٌ به. لكن صحفًا عديدة نشرت، في الفترة نفسها، "تفاصيل مؤثّرة"، كتلك الأم التي تركت أولادها في المدرسة، مع رسالة إلى الأستاذ تُخبره فيها أنّها توصيه بأولادها، "لأنّها لم تعد تملك ما يُطعمهم".
لاحقًا، تذكّر كوستا غافراس أنّ السفير القبرصي نفسه أعلمه أنّ "الكارثة" تلك ستمتد إلى 20 أو 30 عامًا، وأنّه لم يتمكّن حينها من تصديقه. لكن الوقائع تؤكّد الكارثة، فهناك ديون هائلة تبلغ 320 مليار يورو، مرفقة بعجزٍ تام: "مع استلام حكومة تسيبراس السلطة، بات واضحًا أنْ لا مفرّ من المواجهة مع "المجموعة الأوروبية". وزير الاقتصاد يانيس فاروفاكيس كُلِّف بخوص المعركة من أجل اليونان".

قرّر غافراس إنجاز "ناضجون في الغرفة" منذ لحظة انتباهه إلى أنّ البلد دخل في مرحلة الفقر المدقع، وأنّ الشعب سيدفع الثمن: "كنا نعلم أنّ هناك نقاشات حول إعادة التفاوض بخصوص الديون، وأن "المجموعة الأوروبية" تُطالب باعتماد اليونان سياسة تقشّف. لكن، ما الذي كان يُقال في تلك الاجتماعات؟ يستحيل معرفة ذلك"، كما قال غافراس، مُضيفًا أنّه أراد بإلحاح لقاء فاروفاكيس، بعد استقالته من منصبه في 6 يوليو/ تموز 2015، فأمضى وإياه عطلة نهاية الأسبوع: "شرح لي حينها كلّ شيء". في نهاية العام نفسه، أرسل الوزير المستقيل الفصول الأولى من كتابه إلى السينمائيّ، الذي بدأ العمل عليها فورًا.

دلالات

المساهمون