تاشي غيلتشن: أفكّر في الضوء... أفكّر في العتمة

تاشي غيلتشن: أفكّر في الضوء... أفكّر في العتمة

24 أكتوبر 2019
بوتان بلد سعيد وأنا أنجز فيلماً مأساوياً (العربي الجديد)
+ الخط -
بوتان مملكة جبلية معزولة عن العالم، تقع في جنوب آسيا، ومحاطة بالهند والصين، ومغلقة على الجميع تقريباً، من الداخل على سكّانها الأقلّ من 20 ألف نسمة، ومن الخارج على الأغراب. مُنع التلفاز فيها عام 1999، أما الإنترنت فهو غير منتشر بين السكّان الذين يعمل معظمهم بالزراعة. يُقال عن المملكة إنّها الأسعد في الكون، نظراً إلى طبيعتها الساحرة، وانعزال أهلها عن المشاكل الكونية، وخلوّها - تقريباً - من الجرائم. لقاء أحد أفرادها في الخارج نادر الحصول، وعند حصوله، يُثار فضول للحديث معه، فكيف إذا كان مخرجاً سينمائياً؟
في الدورة السابعة من "مهرجان دهوك السينمائي الدولي" التي أقيمت بين 9 و16 سبتمبر/ أيلول 2019 في كردستان العراق، عُرض الفيلم الروائي الطويل الأول لتاشي غيلتشن، "القضيب الأحمر"، في المسابقة الرسمية، فكانت مناسبة للقائه. والفيلم يروي حكاية سانغاي (16 عاما)، التي تعيش مع والدها بعد موت والدتها، في قرية على سفوح همالايا. بين أبّ ينحت قضباناً من الخشب (رمز الخصوبة، تستخدم في الطقوس الدينية والاحتفالية، وتزيّن البيوت لطرد الأرواح الشريرة) ويتحكّم بتصرّفاتها، وإنْ بلطف، وعشيق من طبقة أدنى ومتزوّج، يحثّها على الهرب معه إلى المدينة، تجد سنغاي نفسها في قلب مواجهة عنيفة بين الجميع.

* قلتَ لي إنّك سعيدٌ بوجودك هنا، وإنّها زيارتك الأولى إلى المنطقة. أخبرنا عمّا لفت نظرك وأثار فضولك، أنت القادم من بوتان؟
- كلّ ما أعرفه عن المنطقة آتٍ من الإعلام. لكن، حين جئت إلى هنا، بدت لي المنطقة جديدة، كأنّي هبطت على كوكب المريخ (ضاحكاً). كل شيء جديد: المناظر الطبيعية والثقافة والناس. إنها تجربة رائعة.

* هل يُمكنك التوضيح أكثر، وإعطاء أمثلة عن الاختلاف الثقافي مثلاً؟
- شاهدتُ أفلامًا، واعتدت تقريبًا على اللغة. أنا من منطقة جبلية شاسعة، نسبة غاز الكربون فيها الأقل في العالم. هي خضراء. الألوان هنا مختلفة، أكثر صحراوية، والجوّ حار، وبلدي بارد. لستُ مندهشًا من الفوارق الثقافية، أو ربما بعض الشيء فقط. الناس هنا في غاية اللطف والحرارة، ما يعني تحلّيهم بكرم الأخلاق. لا أعرف أشخاصًا في أماكن أخرى يبادرون ويسألون إنْ كنت بحاجة إلى شيء ما. ثمّ (ضاحكًا) هناك أمر آخر: الناس يحدّقون بي هنا أكثر. أعتقد أنّهم غير معتادين على رؤية آسيويين. لكن هذا لا يُضايقني.

* فيلمك مأساة تحصل في أسعد بلد في العالم.
- بوتان بلد سعيد، وأنا أنجز فيلمًا أسود ومأساويًا. نحن لم نطلب أن نكون أسعد بلد في العالم. هذه هي الحياة. على المستوى الشخصي واليومي، هي نفسها في كلّ العالم. إنها مأساة. لدينا جرائم طبعًا، ومعضلات وتعقيدات. أنا أروي قصص هؤلاء الذين لديهم مشاكل. ككاتب، أحاول التعبير عن رؤيتي وتجربتي الشخصية ووجهة نظري في الحياة. أنا فنان مستقل، لست مدعومًا من الحكومة. أريد أن أروي ما أشعر به، لا ما يريده الآخرون، أو ما تريده حكومتي.

* من وجهة نظرك: لمَ ألصقت السعادة ببوتان؟
- السعادة نهج رائع. حين تُعرَض على الحكومة مشاريع أو صناعات صغيرة أو كبيرة، لن تجلب تحسينات على حياة السكان، لا تُنفَّذ. إنْ لم يرغب الناس في أمر لن يساهم في سعادتهم، فلن يحصل. أن تسعى الحكومة إلى إرضاء السكان وتحقيق راحتهم وصفائهم الروحي هذا نبيلٌ وجيد. تقوم فلسفة الحكومة على "التطوّر مع الاحتفاظ بالقيم". لكنّي، كمخرج، يجب أن أروي ما أريده. هنا يكمن التناقض.

* لكن لماذا أردتَ الذهاب بعيدًا في المأساة؟
- إنها طريقتي الخاصة، وإدراكي الذاتي، ونظرتي للعالم. لا بأس بالتمتّع بالأمل، وبوجود أشياء مضيئة في عالمنا. لكن، من المهم أيضًا معرفة الأحداث المأساوية، والأهم التأكيد على الشخصيات الهشّة. ربما تكون الحلقة متينة، لكن فيها نقطة ضعف يمكن أن تكسرها. أفضّل الوقوف في صف الضعفاء ومن لم ينلْ العدالة، بدلاً من تمثيل الأقوياء والأغنياء، الذين يقومون بأنفسهم بهذا على أكمل وجه. ربما تكون هذه خلفية أفكاري، في اللاوعي. بوتان بلد أفضل بكثير من غيره في المساواة بين الجنسين، لكن هناك المزيد لإضافته.

* تبتعد عن الخطابات السائدة في العالم التي لا تزال تأمل بأنّ كلّ شيء يُمكن له أن يعود كما سبق.
- الأمل هو، أحيانًا، جرعات زائدة، من دون فهم واستيعاب للمواضيع العامة والتفاصيل. هذا لا معنى له، وهذه النظرة لا تجذبني. إنْ لم تشعري بالأسى والحزن، فلن تعرفي الحياة الحقيقية، ولن تُدركي مواجهتها. الواقع هنا وتجنبّه لا ينفعان. لكن، كوني مخرجًا، فهذا بحدّ ذاته أمل. رواية قصة، وإنْ تكن تراجيدية، هي بحدّ ذاتها أمل. فكرة الإبداع هي نفسها أمل. إنّها غناء في الأوقات المظلمة. عندما أكون تحت الضوء، أفكّر في الضوء؛ وعندما أكون في العتمة، أفكّر في العتمة. العالم يريدك أن تكون إيجابيًا، والواقع، هل ننساه؟ مثلاً، الاغتصاب أمامي، لذا لا أستطيع أن أدير ظهري له. سأحاول كلّ ما بوسعي للمساعدة.
* ما الفلسفة التي يقوم عليها الفيلم؟
- تقول البوذية إنّ الطيبة تُخلق معنا. لكن، حين نعيش في هذا العالم، نغدو أشرارًا، وتُدمَّر إنسانيتنا. في الفيلم، أتساءل: كيف لرجل تكمن الطيبة فيه أن يغتصب؟ كيف له أن يفعل هذا؟ أحقّق الفيلم لطرح أسئلة عن أسباب سوء البشر، وطبعًا لا أعثر على إجابة. العالم صغير، وإن تكن بوتان منقطعة عنه، وتعطينا إيحاء بالعيش في بقعة محمية ومعزولة، فهذا يجعلنا نحاول فتح آفاقنا وعقولنا أكثر لإدراك ما يحصل في هذا العالم.

* في الفيلم تناقض صارخ بين جمال الطبيعة الأخّاذ والشرّ المختبئ في نفوس ناسها. بين ظاهر وباطن.
- هذا ما نفعله معظم الوقت. يُفترض بنا أنْ نكون الأسعد بينما نحاول باستمرار إخفاء شيء ما. لا أخجل من الحديث عن الجرائم. لدينا مسؤولية تجاه مأوى ساهم في تشكيلنا ووهبنا السعادة، وإن يكن فيه ما يُعيب. العالم بات اليوم يهتمّ بالشكل الخارجي فقط. بين قصر يبدو أهله سعداء وكوخ لا يبدو أهله هكذا، من يدري من هو الأسعد؟

* اخترتَ عنوانًا اعتبره البعض مربكًا.
- ربما يصدم العنوان الآخرين، لكنه عندنا لا يثير دهشة أو تعليقًا. القضيب أيقونة في ثقافتنا، وله معانٍ كثيرة. لم أنتبه إلى ما يثيره المعنى في بلدان أخرى إلا لاحقًا. حين اخترت العنوان، لم أفكر في الترجمة، وبأنه ربما يُربك. لم يكن ذلك في بالي أبدًا.

* اعتمدتَ أسلوبَ سرد بطيء، أودّ معرفة هدفك منه.
- هذا أسلوبي، النابع من ثقافة بلدي. هذه ليست نيويورك. في بوتان، كلّ شيء يستغرق وقتًا، ولا شيء يضطرّنا إلى السرعة. سأروي لك طرفة. تواعد بوتاني وسويسري. لم يأتِ الأول في الموعد المتّفق عليه، فعلّق السويسري متهكِّمًا: السويسريون يصنعون الساعات. فردّ البوتاني: ربما تصنعون الساعات، لكن الوقت كلّه معنا. طبعًا، هذا لا يعني أننا لا نحترم وقت الآخرين. نحن نؤمن بالتقمّص، وحكمتنا نابعة من أنّ حياة أخرى أمامنا، فلمَ العجلة؟ ما لم أحقّقه في هذه الحياة سأحقّقه في حياة أخرى. أفترض، وهذا مجرّد افتراض، أنّ الذين لا يؤمنون بالتقمّص يفكّرون في أنّ لديهم حياة واحدة فقط لفعل كلّ شيء، لذلك يصعب عليهم الصبر والتمهّل.
* هل هناك إنتاج سينمائي في بوتان؟ ممثلون، دور عرض، أفلام أجنبية؟
- توجد صناعة سينمائية تجارية جدًا، تلعب فيها الموسيقى والرقص دورًا رئيسيًا، مثل بوليوود. ننتج أكثر من عشرين فيلمًا في العام، لكنّ الأفلام المستقلّة نادرة جدًا، كما أنّ سينما العالم لا تُعرض هنا، بل فقط تُعرض أفلام من بوتان في أربع صالات. لا أفلام أجنبية، ولا سينما في معظم البلدات الأخرى. في فيلمي، قام بدور الأب والبطل الشاب ممثلان من السينما التجارية. أما الشابّة فتظهر في السينما للمرّة الأولى.

* كيف وصلت إلى السينما؟
- درست في نيودلهي. نحن معتادون على الثقافة الهندية، وقريبون منها. كنتُ مهتمًا بالكتابة والأدب، وكنتُ أريد أن أصبح شاعرًا. ولعدم وجود الفرص في بوتان، أصبحتُ صحافيًا. ثم، بعد أعوامٍ عديدة في الصحافة، طُردت من عملي بالطبع.

* بالطبع؟
- لم يوافقني النظام. كما اقتنعت أنّي لستُ جيدًا كفاية لأكون شاعرًا، فماذا أفعل؟ الصُوَر في ذهني دفعتني إلى التفكير في صنع أفلام، ولم تكن لدي أدنى فكرة عن هذا، فبدأتُ البحث بمفردي، ثم صنعت فيلمين قصيرين قبل هذا.

* متى زرتَ بلدًا أجنبيًا للمرة الأولى؟
- بدأتُ زيارة العالم حين بدأتُ صنع الأفلام.

* حدّثنا عن بلدك السعيد.
- بلد تعتنق غالبية سكّانه البوذية. هذه طريقة حياة، لها تأثير كبير على سلوكنا وتفكيرنا، لا سيما في مسألة حبّ الطبيعة المغروس فينا، واحترام مخلوقاتها كلّها، من حيوانات وحشرات. نعيش في الجبال، وهذا يورثنا ربما طبيعة قاسية نابعة من قسوة المكان. لكنّ الناس طيبون، ولا يقولون "لا" بشكل صريح. "ألّا تقول لا" ثقافة آسيوية. لا نحبّ السيطرة ولا الضجيج. نحترم الكبار والأهل، والعلاقات الأسرية متينة جدًا. مجتمعنا أمومي، فالأم ترث الملكية، والرجل يأتي إلى منزل الزوجة لأنّه إذا أخذها إلى عنده يصبح أكثر ثقة بنفسه. كما أنّ الابنة تعتني بأهلها أكثر من الرجل، و"التعدّد" مسموحٌ به للزوجين.

دلالات

المساهمون