المالوف الليبي: أغنيات رحلت من الأندلس إلى طرابلس

المالوف الليبي: أغنيات رحلت من الأندلس إلى طرابلس

17 أكتوبر 2019
من أبرز فرق المالوف فرقة أسسها حسن العريبي (Getty)
+ الخط -
خلال الفرار الكبير للأندلسيين من محاكم التفتيش، حمل أهل الحضارة العريقة بين ما حملوا هدايا في الفن والموسيقى لبلدان المغرب العربي، أبرزها فن غنائي هو الموشحات، ومن الموشح جاء المالوف؛ قالب موسيقي يتسم بالبساطة، وينتشر في كل من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا.
في أحد مقاهي القاهرة، التقينا الباحث في التراث الموسيقي الليبي، نزار بقّار، الذي أجاب عن أسئلتنا بتدفّق على مدار ساعتين.

- ما هو المالوف؟
* بالنسبة للتسمية، قيل إنها جاءت من المألوف، وللتسهيل أصبحت تُنطق المالوف؛ أي الشائع والمعروف، لكن ليس ذلك مؤكداً. المالوف، كفن وكمصطلح، ينحصر وجوده في تونس (العاصمة)، وطرابلس الليبية، وعنابة وقسنطينة الجزائريتين، ولا يسمى مالوفاً خارجها، حيث اتخذ في غرب الجزائر والمغرب شكلاً مغايراً عن المدرسة الشرقية، كما اختلفت تسميته؛ فهو عندهم الآلة، أو الطرب الغرناطي، أما شرق الجزائر وتونس، وغرب ليبيا؛ فالمالوف هناك يمثّل تفريعات تنتمي إلى مدرسة واحدة.
جاءت تسمية المالوف متأخرة، فهو في الأصل موشح، ويشترك الاثنان في النص المغنى (خمسة أو سبعة أبيات) وإن افترقا في طريقة التلحين، حيث ابتعد المالوف عن الإيقاعات المركبة والمعقدة للموشحات، والتجأ إلى إيقاعات أكثر بساطة.

- ماذا عن أنواع وأساليب تلحين المالوف وآلاته ونوباته؟
* هناك مالوف الزوايا، وقد جعلته الطرق الصوفية للترويح، وهناك مالوف للأفراح، وثالث يسمى مالوف السهرة، وهو أعقد في تركيبه من النوعين السابقين، أما ألحان المالوف فتقع دائماً بين مقامات الراست والسيكا والحسيني والأصبعين (الحجاز) والمزموم (العجم)، وتوجد أخرى مغاربية مثل الماية والأصبهان. وبالنسبة للنوبة؛ فهو مصطلح صكه زرياب، ويعني وصلة الغناء أو الدور، والنوبة التقليدية تنقسم إلى الإيقاع المصمودي (بطيء) ثم تتسارع إلى أن تصل إلى البراول (القتقفتي).
وبالنسبة للآلات، ففي النوبات التقليدية تستعمل آلات رقيّة من جلود الماعز، والغيطة (آلة نفخية). وهناك آلات وترية، مثل: الكمنجة والعود وأحياناً الربابة والقانون، إضافة إلى الناي، أما آلات الإيقاع فتتمثل في: الطار أو البندير أو النغرات أو الدفوف أو الدربوكة (الطبلة).

- كيف دخل المالوف إلى ليبيا؟
* في القرن الثالث عشر زار ليبيا، طرابلس تحديداً، عالم دين ومتصوف هو أبو الحسن الششتري. أمدّ الششتري الليبيين بعدد كبير من نصوص الموشحات. أغرم بها أهل طرابلس وحفظوها، وعندما استجلب الصوفية المالوف (النص المغنى) اكتشفوا أن لديهم مخزوناً قديماً من النصوص، لذلك فليبيا نصيبها من المالوف، كنصّ، أكبر من بقية المناطق التي انتشر فيها.
وكما كان الششتري الصوفي هو من عرف الناس على الموشحات، فالطرق الصوفية هي من أدخلت المالوف إلى ليبيا، وعلى رأسها الطريقة العيساوية المنسوبة لسيدي محمد بن عيسى ولي مكناس، وإليها تنتمي معظم الزوايا في مدينة طرابلس. وكان أن اختارت الطريقة العيساوية الموشحات الدينية للترويح، ثم سرعان ما لحقت بها الموشحات الغزلية، ولم تمر فترة طويلة حتى كوّن المالوف شخصية مستقلة عن الموشح من خلال ألحانه وإيقاعاته. هذا بالنسبة للمالوف الليبي وذلك الموجود في بلدان شمال أفريقيا عامة، أما منطقة غرب الجزائر والمغرب فقد اعتمدت على الألحان الأندلسية.
- ما هي الأسماء الأبرز في عالم المالوف؟
* كل أعلام المالوف كانوا من المشايخ، وأقدمهم شيخ القراءات السبع محمد قدور أفندي (النصف الثاني من القرن التاسع عشر). كان ضابطاً في الجيش العثماني وإمام طابور (يؤم المصلين في الجيش). أثرى قدور نوبة المالوف في بعض المقامات كمقام المزموم (العجم) الذي فقدت معظم نصوصه. لعلّ تسعين في المائة تقريباً من نوبة المزموم المغناة في طرابلس اليوم هي من أعمال قدور، كذلك نوبة الحسين (درجة من درجات البياتي).
وهناك أيضاً الشيخ علي بوفيم. تركز إسهامه في نوبة الراست، إذ إن نسبة كبيرة مما يغنى من تلك النوبة بطرابلس اليوم هي من ألحانه.

- ما الذي ميز المالوف الليبي عن مثيله في الجزائر والمغرب؟
* المالوف الليبي، وإن كان أوسع انتشاراً من مثيليه في البلدان الموجود بها، لكن ليس أكثرها ثراءً في الإيقاعات، لأن المشايخ الذين استجلبوه وجهوه ليكون فنّاً للزوايا، يُراعَى في ألحانه البساطة، حتى يتسنى للناس أن يردّدوه بالحضرات والمناسبات الدينية، لذلك اتخذ شكلاً واحداً، يبدأ بإيقاعات بطيئة ثم يتسارع.
هناك نوع آخر أكثر تركيباً من مالوف الزوايا والأفراح، أثراه الشيخ علي بو فيم، وأشرنا إليه سابقاً، وهو مالوف السهرة.

- في سنة 1964 صدر قرار من الوزير خليفة التليسي بتشكيل لجنة للمحافظة على تراث المالوف، سجلت ما يقرب من 250 نوبة، فهل ما زالت محفوظة؟
* الفضل في حفظ تراث المالوف عموماً يعود إلى الموسيقار التونسي صالح المهدي، وهذا راجع إلى أنه في تونس، كان المهتمون بفن المالوف أكثر تنويراً وانفتاحاً، بخلاف مشايخه في ليبيا الذين اتسموا بالتقليدية إلى حد بعيد. المالوف في تونس يمكن وصفه بأنه كان فن الطبقة الراقية، وتداولت تلك الطبقة نصوص الخمريات والغزليات والغلمانيات، في حين أهملوا التراث الديني. حينها، خشي المهدي عليه من الاندثار؛ فحادث صديقه الوزير التليسي في شأن تسجيل المالوف الديني، أو مالوف الزوايا في ليبيا، ليصدر التليسي قراراً بتشكيل لجنة من كبار المشايخ حينها: الشيخ خليفة الرماش والشيخ محمد أبو ريانة الشيخ محمد تومية (قنيص) والشيخ على منكوسة.
في نفس الوقت، أوحى الوزير حسن العريبي (رئيس قسم الموسيقى في بنغازي) بإنشاء فرقة للمالوف تمثل ليبيا في المهرجانات الدولية، ولا تزال تسجيلات المالوف محفوظة في الإذاعة، كما أن حفظة المالوف ما زالوا يستعيدونه في مجالسهم.
وإلى جانب ذلك، هناك الكتب الجامعة للمالوف، ونسميها السفائن، وهو اسم مستقى من "سفينة شهاب"؛ المرجع الأهم في الموشحات، فجرى توثيق نصوص المالوف على نهجه، وهذه السفائن قديمة نسبياً. أما حديثاً، فالمراجع محدودة إلى حد كبير، منها مرجع مهم للدكتور عبد الستار بشيّة من مجلدين؛ المجلد الأول اعتنى بالنص ورواياته، والمجلد الآخر اهتم بتتبع سير أعلام المالوف، إضافة إلى الأمور الفنية من مقامات، وكان هذا العمل أول دراسة أكاديمية تتناول تراث المالوف في ليبيا (سنة 2000)، وهناك كتب أخرى مثل: "قطرة من بحر المالوف" للشيخ عبد الرزاق الجوبة، وكتاب "غير المألوف من المالوف" للشيخ أسامة البسطي، الذي جمع فيه النصوص غير الشائعة، وهناك مرجع ثالث لا يقل أهمية عن السابقين، للدكتور عبد الله السباعي وهو واحد من كبار باحثي المجمع الموسيقي العربي.
- قلت إن الطرق الصوفية مثلت الحاضنة للمالوف في ليبيا، فهل ما زال لها نشاط في ظل الأوضاع الحالية؟
* للأسف تم تدمير كامل الأضرحة وتعطيل الزوايا حتى قبل مقتل القذافي، فبعد سقوط طرابلس في يد الثوار بأغسطس/آب 2011، اجتمعت الفصائل الوهابية والجهادية على تدمير الأضرحة وإغلاق كافة الزوايا، ومن حاول مقاومتهم تعرض إلى العقاب كما حصل في 2012 عندما أعلنت إحدى الزاويا الصوفية إحياء ذكرى المولد النبوي بمسيرة مالوف فقصفت زاويتهم ليلة المولد، ليتكرر الأمر بعدها بسنتين مع زاويا أخرى.

- وماذا عن الدولة؟
* الدولة في محاولة للتأكيد أنها تسيطر على الأوضاع؛ فتؤمن يوم المولد الشريف فقط الذي يحضره بضع مئات، في حين كان الحضور السابق يبلغ عدة آلاف ليستمر مهرجان المالوف أربعين ليلة في كل الزاويا في العاصمة طرابلس، والتي لم يخل حي من أحيائها من زاويا تشارك في الاحتفال.
- في ظل تلك الأوضاع، هل ما زال هناك فرق للمالوف؟ وبرأيك هل يمكن لهذا التراث أن يستمر ويصمد في بيئة أصبحت معادية؟
* لم يكن في ليبيا فرق جادة للمالوف إلا فرقتان: فرقة حسن العريبي، وفرقة الشروق، أما البقية فيمكن وصفها بالتجارية. لكن الناس في طرابلس ما برح لديها شغف بهذا التراث الممتد عبر مئات السنين، وما زالت البيوت في كل ليبيا تنشد المالوف، حتى بعد تحريم الجماعات المتشددة له، تطورت نوباته كنوبة العريس؛ فاتخذت شكلاً أكثر بهجة، كرد على تلك الجماعات: إذا كنتم قد قصفتم معاقل المالوف؛ فسنستمر في إحيائه بأفراحنا ومناسباتنا وفي بيوتنا.

المساهمون